هناك مسافة بين الإدراك الواقعي والعقلاني لأي واقعة توصف بأنها «مؤامرة» وبين استخدام مصطلح المؤامرة في أغراض الصراع على القوة بين الوجهات الفكرية والاجتماعية المختلفة في مجتمع من المجتمعات، أو وقوع الوعي ضحية استحواذ هذياني مُعتَل لا يستطيع أن يفهم الواقع من دون افتراضات غير مبررة، أو لتبرير العجز عن الفهم، أو لإعفاء الذات من المسؤولية عما تعانيه من قصور… إلخ.

المؤامرة، على وجه العموم، تسمية للقصد سراً إلى صنع حدث بما ينتج عنه مكسب للمتآمر وضرر على ضحاياه. والمشكلة المخصوصة فيها هي في نتائج الافتراض غير المبرر لها، من حيث علله الباعثة عليه، وأشكال توظيفه والاستخدام له، ومقدار التضخيم له. ولا يستطيع أحد أن يقصُر أشكال استخدامها، على مجتمع واحد، فهي في المجتمعات المتقدمة والمتخلفة، والقديمة والحديثة.

لكن المتأمل يستطيع أن يقرأ فيها -من بعض الوجوه- سجنا للعقل العربي والإسلامي، يحدُّ من قدرته على الفهم التاريخي للوقائع، ومن القدرة على نقد الذات واكتشاف عيوبها، ومعالجة انحباسها في قفص التحيز المعرفي والمفاهيمي. فبعض الوجهات الفكرية والاجتماعية في هذه المجتمعات، تُعلِّق على المؤامرة مشكلات المجتمعات العربية الإسلامية الحديثة وما تتعرض له، وتتوسل الاتهام بها، في صراعها مع غيرها على امتلاك المشروعية والنفوذ، وتستخدمها في قراءة وقائع التاريخ العربي الإسلامي، وإعادة صياغتها.

والنتيجة، في أسوأ تجلياتها، تفسير العلاقة مع العالَم بما ينزع أي صدقية أو ثقة لدى العرب والمسلمين تجاه غيرهم من الشعوب والحكومات، وتفسير العلاقة مع التيارات المنافسة والمغايرة داخل الإطار الوطني والاجتماعي الواحد، بما ينزع الثقة والصدقية عنها. وهذان وجهان نستطيع أن نعرف من الوصف بهما، مبلغ التعصب والانغلاق ونفي المختلف، والشعور بامتلاك الحقيقة، عند من يمارس ذلك التفسير بالمؤامرة ويروج له.

في العديد من الكتب التي تكرِّس الانغلاق والتقليد في الثقافة العربية الإسلامية الحديثة، يمكن للقارئ أن يعثر على تصوّر لمؤامرة كونية تتشارك فيها أمم الأرض للقضاء على الإسلام والمسلمين، والاستبداد بهم. وسيبلغ تصوره هذا درجة يرى أنه لا هَمَّ لهم ولا شاغل يشغلهم إلا الإسلام والمسلمين.

ولا يقتصر ذلك على الحروب المباشرة والاستعمار والتعاطف مع دولة إسرائيل، بل إن المنظمات الدولية والمعاهدات والمناشط المدنية والإنسانية والإعلامية مكرسة لتنفيذ مؤامرة متفق عليها سلفاً.

وبوسع المتابع أن يجد انتشار هذه الفكرة بحيث تنعدم الإشارة في أدبيات من هذا القبيل الإيديولوجي، إلى التخلف العلمي والتقني المادي، وضمور أنساقنا العقلية عن استيعاب ما يليق بالتقدم والثورات العلمية والتقنية المتلاحقة. ولو حدثت مثل هذه الإشارة لأغنت عن التساؤل عن هدف التآمر أو بواعثه؛ فضعفُنا واحتياجنا في ضرورات حياتنا يجعل التآمر غير مبرَّر، وخطره أهون مما تفرضه عقليتنا من خطورة.

ويلفت الانتباه أن المؤامرة على العرب والمسلمين ليست دلالة على عمل محبوك في الخفاء كما قد نفهم معناها للوهلة الأولى، بل هي تُطلَق على توجهات معلَنَة لا خفاء فيها ولا سرية، كما يلفت أيضاً أن مصدر المؤامرة، ليس جهة وحيدة وثابتة، بل تتعدد وتترحَّل من جهة إلى أخرى، وتجتمع مع غيرها في وقت واحد:

فهي الاستعمار وما يتصل به من الرأسمالية الغربية «وريث الصليبية الحاقدة منذ الحروب الصليبية». وهي الاستشراق الذي يصنع فعلاً تآمرياً بقصده إلى إنتاج معرفة خاطئة ومشوِّهة.

ثم هي الحركات التبشيرية التي تسعى إلى مسخ العقيدة.

وتأخذ الصهيونية دوراً غير هين في فعل المؤامرة، فإلى اليهود تعود الماسونية والشيوعية الماركسية والمذاهب الفلسفية المادية. وقد غدا كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» مصدرا لأعاجيب عن قوة اليهود ومقاصدهم الخفية إلى السيطرة على العالم. وهو كتاب مزيَّف كما أثبتت الدراسات والتحليلات، ويعود إلى حرب الكراهية لليهود في أوروبا لا سيما في ظل النازية.

ولا تتخلف الشيوعية عن هذه المؤامرة؛ فالنزعة الإيديولوجية الأممية العلنية فيها، تستحيل في الوصف لها بأنها «مؤامرة» إلى ممارسة سرية محبوكة يمكن أن يؤوَّل بها ما لا صلة له بها.

ولا تقتصر المؤامرة على الإيديولوجيات في الخارج، بل تنتقل لتصف المذاهب والطوائف وأصحاب التوجهات الفكرية التي تنزع إلى التجديد أو إلى النقد للتقليد والجمود.

وقد رأينا في مقال الأسبوع الماضي الهجوم على زعماء الإصلاح مثل الأفغاني ومحمد عبده، فلم نر نقداً عقلانياً لهم أو دينياً، بل تشويها لهم ينسج حبكات من العلاقة بينهم وبين حضور يهود إلى مجالسهم، أو بينهم وبين نوادي الروتاري والماسونية، أو المندوب البريطاني... إلخ. وهذا وصف لهم بالتآمر وتخوين يتجه إلى إسقاط خصوم فكريين بإدراجهم في حبكة عمل سري غامض، يخوِّف بهم ومنهم في مجتمع اتباعي لا يحاكم مثل هذه التهم بالعقل ولا يتساءل عن براهينها ومقاصدها.

ومضت هذه الطريقة لتتناول كثيراً من رموز الفكر والنقد والتجديد في مختلف الأقطار العربية والإسلامية. وتتسع المادة التي تستهدفها المؤامرة حتى لا يكاد يسلم من تهمتها أي موضوع جديد، ومن أمثلة ذلك: التنظيمات والمعاهدات التي تنظم العلاقات الدولية، والخطط التي تقصد النهضة والتنمية، والاتساع والتجديد في علوم الشريعة وعلوم اللغة والأدب، ونقد التوجهات الحركية التي تستخدم الدين لأغراض سياسية، والمطالبة بتمكين المرأة وإحقاق حقوقها الإنسانية والاجتماعية بما يحميها من تغول الرجل واستبداده بها... إلخ.

إن المنزع إلى الاتهام بالمؤامرة، منزع متجرد من المسؤولية، لأن إلقاءه التبعة على المؤامرة، وتصديق ذلك إعفاءٌ له من أي تبعة تجاه ذاته وتجاه من يتعلق به، وهي تبعة مضنية في جهدها وفي معاناتها، بالقدر الذي يكون الاكتشاف لعيوب الذات ومعاناة الاعتراف بتلك العيوب والعمل على إصلاحها.

لكن هذا المنزع يجد في المؤامرة وسيلة لحشد الأنصار له وتأليبهم لتأييده؛ فهي من حيث إشارتها إلى فكرة في الخفاء، لا تستدعي المعالجة لها والبرهنة عليها، والمعركة معها مؤجلة دوماً، علامة على تضخيم لعظمة الذات الاجتماعية والثقافية ودلالة مديح وتخليةٍ لها من العيوب والنقائص؛ فلا أحد يتآمر على من لا أهمية له، ومشكلات الذات –إذًا- هي من خارجها أي من المتآمرين عليها. ومادام أن هذا معنى مبهج ومغر لكل من يسلِّم به، فإن النتيجة تؤول لديه إلى تزكية من يقول بالمؤامرة واتهام غيره والتخويف منه.

وبوسعنا أن نجد فكرة المؤامرة دوماً قرينة الجهل بالأسباب أو العجز عن تفسير بعض الأحداث والظواهر، ولكنها –إلى ذلك- قرينة كل الإيديولوجيات الدوغمائية والشمولية.

وقد قارن باحثان ألمانيان هما هندريك هانسن وبيتر كاينز، في دراسة لهما، بين الإسلاموية الراديكالية العنيفة، وماركسية لينين، والقومية الاشتراكية النازية عند هتلر، فدلَّلا على وجود بنية متشابهة بين الإيديولوجيات الشمولية الثلاث على اختلافها. ومن وجوه هذا التشابه النظر إلى القيم -التي تُنسَب لدى تلك الإيديولوجيات إلى الغرب- مثل الحرية وحقوق الإنسان... إلخ بوصفها فعلا تآمرياً ضد ما تدافع كل منها عنه؛ يقصد من وجهة الإيديولوجيا الاشتراكية استغلال المستضعفين، ومن وجهة النازيين اختلاط اليهود بالآريين، ومن وجهة الراديكالية الإسلاموية القضاء على الإسلام.

وبالطبع فإن كل واحدة منها على حدة كانت تصنع بتلك التهمة تبريراً لها وتعبئة لأنصارها وإباحة لما اقترفته من عنف.