المعلم هو قاعدة مثلث التعليم، ويستند على متانة تلك القاعدة عمودان (الطالب والمقرر)، وتفاعل المعلم مع هذين العنصرين هو ما ينشطهما ليثمر التعليم. ولهذا السبب ينبغي أن ينال المعلم الاهتمام، لكن بالإعداد الجيد قبل التقييم، وبالتحفيز قبل المحاسبة، وبالمتابعة قبل العقاب. واتخاذ آلية العصف الذهني منهجا لإدارة أنظمة التعليم يعيق نجاح العملية التعليمية، حيث يشوش أداء المعلم من عدة جهات:

• حشود من أنظمة وتعاميم متلاحقة غالبا ما ينقض أحدها ما قبله.

• تغيير سريع وغير منضبط -بحيث لا يصح أن يسمى تطويرا- للمقررات والمناهج من دون إعداد المعلم لتنفيذها.

• إثقال المعلم وإشغاله بأعمال لا تخدم مقرره ولا أداءه، بل تشغله عن مهامه الأساس، مما يؤثر في تقييمه، وهو وضع لا يصفه غير قول الشاعر:

ألقاه في الماء مكتوفا وقال له

 إياك إياك أن تبتل بالماء!!

وفي هذا السياق يجيء ما يسمى «الترتيب الفئوي للمعلمين»، الذي يستند على ثلاث «بطاقات للتشخيص»، بطاقة تشخيص الأداء التحصيلي، وبطاقة تشخيص الالتزام التنظيمي، وبطاقة تشخيص غرس القيم وتحسين السلوك، (وأتحفظ على المصطلحات، فهي تعكس إشكالا في وضع مصطلحات الأنظمة)، بطاقات تتزاحم فيها معايير، يبدو كثير منها بعيد الصلة بالمعلم ومهامه، بل إن بعضها هو حق له لا واجب عليه، مثل «حسن تصرف الطالب، ومحافظة الطلاب على النظام»، وكل منهما معيار مستقل، وهما كما يبدو حقوق للمعلم، ومهام للإداريين الذين تزدحم بهم المدارس.

معايير تقييم المعلم في هذا الترتيب لا تخلو من ثغرات قد تتعارض مع النظام التعليمي بأسره، ومع الخطط التي تضعها الدولة للنهوض بمؤسسة التعليم وأنظمته. ولعلني أبدأ بالشرط الأكثر غرابة وتعارضا مع أي قوانين للتقييم والمفاضلة، أعني به اشتراط عدم حصول أكثر من معلم على الترتيب نفسه، وذلك يجبر المقيِّم على إنزال معلم أو أكثر عن مراتب يستحقونها، لأن الرتبة -في هذا الترتيب- لا تحتمل سوى شخص واحد! فماذا عن حقوق المعلمين الذين يتنافسون على إرضاء ضمائرهم، ثم إرضاء الوزارة ومطاردة تعاميمها المتلاحقة، ويعانون الأمرين في الجمع بين أمور لا تستوعبها ساعات يوم ولا أيام أسبوع؟! وماذا عن التنافسية التي سيقتلها هذا الشرط، حين يدرك المعلم أنه مهما بذل فسينزل عن رتبته المستحقة لصالح زملاء آخرين لا يختلفون عنه تميزا؟ ثم ماذا عن المدارس المتميزة التي توفر لمعلميها بيئة تسمح لهم بالتنافس على الإبداع والتميز؟ وأخيرا، هل يعتقد واضعو نظام الترتيب الفئوي أن المعلمين فصائل ورتب نباتية -مثلا- بحيث يحتل كل معلم رتبة في فصيلته، لا يشاركه في خصائصه معلم آخر؟

الأعجب من ذلك أن الترتيب الفئوي لا يحتسب خبرة المعلم، ولا يضع لها أي قيمة، إذ يُحتسب -في كل معيار- أعمال السنة التي طُبق فيه النظام، ويتجاهل واضع النظام إنجازات المعلم في مجمل سنوات خبرته، علما بأن خبرة المعلم -مهما كانت غير محدَّثة- لا تخلو من قيمة تضاف لأداء المعلم، ولمهاراته المختلفة. ووفق هذا الشرط قد يتفوق -في الرتبة- معلم يخلو سجله من الإنجازات، ما خلا عاما واحدا، يصدف أنه العام الذي طُبِّقت فيه المنظومة، بينما يتأخر في الرتبة معلم سجله مليء بالإنجازات، لكن اضطرته ظروف خاصة لفرملة طموحه في العام الذي يصدف أنه عام الاحتفال بإنجازات المعلم!

ولعل الثغرة الأبرز في معايير الترتيب الفئوي أنه لا يأخذ في الحسبان طبيعة المقررات من حيث المناهج العلمية والإستراتيجيات التعليمية التي يتطلبها كل مقرر، فالمقررات التطبيقية (العلوم) تختلف -في ذلك- عن المقررات النظرية (اللغات والثقافة والاجتماعيات والمقررات الفنية)، ومن الخطأ البيّن ألا يحتسب لمعلم العلوم التطبيقية الجزء العملي من مقرره تحت معيار (الأنشطة)، ومن جهة أخرى، لا يمكن المساواة بين معلم المواد النظرية ومعلم المواد التطبيقية تحت المعايير التي تعد مهارات إضافية، لا تدخل في صلب العملية التعليمية، مثل المشاركة في اللجان، وذلك لاختلاف الوقت المتاح لكل منها، بعد أداء متطلبات كل مقرر، فالوقت الذي يستغرقه معلم الرياضيات -مثلا- في أداء العملية التعليمية، مراعيا المهارات المطلوبة، وكل ما يطلبه منه الترتيب الفئوي، لا يتيح له مساحة للأنشطة الإضافية، ولا لعضويات اللجان والمشاركات الشرفية، بخلاف معلم المقررات النظرية، نظرا للفارق الكبير بينهما في المادة المطلوب منهما التعامل معها، من واجبات الطلاب واختباراتهم، نوعا وكما. وليس في ذلك انتقاص من المواد النظرية، (فأنا محسوبة على هذه المواد)، بل هو احترام لمتطلبات المقرر، والأداء، ولمجهود المعلم، واحتياجات الطالب، حيث ستتأثر كل هذه الأمور بمطاردة المعلم للرتب العليا في معايير لا تخدم مقرره ولا تحسن من أدائه.

هذه الثغرات في نظام الترتيب الفئوي للمعلمين تجعله يتعارض مع توجه الدولة لخصخصة التعليم، فالخصخصة تعتمد -في سبيل تحقيق مخرجاتها- على تقييم دقيق للموارد البشرية والمدخلات القابلة للحساب، وذلك لا يتحقق بمعايير تقييم مرسلة عشوائية، لا تحترم الخبرة، ولا المنجز التراكمي، ولا طبيعة موضوع التقييم.

وعلى وزارة التعليم -نظرا لما سبق- إعادة النظر في النظام، وإن لم تفعل فلن يعدو أن يكون عبئا على كيان التعليم العام، وسيضاف لغيره من قرارات الوزارة ومبادراتها التي اتسم كثير منها بالتسرع في التطبيق قبل المراجعة، مما أهدر قيمتها ولم يحقق أهدافها. وذلك ما يلاحظه أي مهتم إذا ما تأمل بواقعية مبادرات مثل «فطن»، و«حسن»،... الخ، فهي مبادرات لم تخضع للمراجعة والمتابعة والتطوير لتتماشى مع الوضع العام للتعليم العام، ومع ما يفترض أن يكون عليه من تغيرات يفترض أن تتحقق بعد تنفيذ المبادرات. ويجدر الإشارة إلى أن كثرة المبادرات والأنظمة ليس نشاطا يحسب لأي مؤسسة، بقدر ما هو دلالة على عدم فعالية تلك الأنظمة، إذ لو حققت أهدافها لما احتيج لغيرها!