يعتبر الاستثمار في التعليم من أهم أنواع الاستثمار الوطني في تنمية الموارد البشرية؛ باعتبارها المسؤولة عن بناء الصرح التنموي والمؤسسي والقطاع المنتج بجميع مجالاته في الوطن، ويشمل ذلك الاستثمار قطاع التعليم بمختلف مؤسساته ومستوياته التعليمية وتوجهاته المتنوعة؛ وذلك يقتضي الاهتمام بجودة مخرجاته وبتميزه العلمي، وبنجاحه في التمكين المعرفي للملتحقين به، والقدرة على تنمية المهارات وتوجيه القدرات لما يحقق الإبداع والابتكار، وإمكانية تحقيق إضافة فعلية لرصيدنا التربوي والعلمي بمفاهيمه الحديثة المتقدمة التي تعالج مفردات المعرفة العلمية ومضمونها، كمشكلات تبحث لها عن حلول تُستنتج بالبحث والاطلاع الذاتي، بما يسهم في بناء فكر واع باحث عن الحقيقة والمعرفة، ويؤسس لتكوين شخصيات مُعتدة بنفسها واثقة من تمكنها العلمي والمعرفي، وقادرة على الحوار والنقاش البناء، وبما يخدم التنافس الشريف والتميز في الأداء الذي ينعكس مردوده على الفرد والمجتمع.

انطلق خيار الاستثمار في التعليم الجامعي الوطني كجزء من برنامج لتنفيذ سياسات التوسع في التعليم العالي، وتنشيط الابتعاث، ولتكون جامعاتنا الوطنية خياراً متميزاً للابتعاث الداخلي، وليشارك القطاع الخاص في دعم مسيرة التعليم وسد العجز في إمكانية القبول لدى الجامعات الحكومية؛ بالإضافة لما يمكن أن تضيفه تلك الجامعات من تخصصات حديثة وعلوم مختلفة تواكب التقدم العالمي، ومسيرة التنمية الوطنية ومتطلباتها النوعية في مخرجات من الموارد البشرية القادرة على الانخراط في الميدان العملي، تأهيلا وتدريبا «مبدئيا» كجزء من متطلبات التخرج والتهيئة لسوق العمل.

وبطبيعة الحال فإن تحفيز القطاع الخاص للاستثمار في التعليم بصفة العموم، والتعليم العالي على وجه الخصوص يتطلب الدعم المادي والمؤسسي والإداري بكافة مضامينه؛ ليتمكن القطاع الخاص من تحقيق رؤيتنا التعليمية ومستهدفاتنا التنموية الوطنية في إطار إستراتيجيتنا الوطنية، وبمستوى من الجودة والتميز الذي نطمح له، حتى لا تتحول عملية الاستثمار في التعليم إلى مشروع تجاري ربحي بعيد عن مقصده العلمي والتنموي. وإذا كان الدعم المادي يمكن تحصيله من خلال الرسوم العالية المطلوبة للدراسة، والتي كانت تدفعها الوزارة دعماً لبرنامج الابتعاث الداخلي، بهدف احتواء البعض من مخرجات الثانوية لتمكينهم من الانخراط في التعليم الجامعي، وكجزء من مسؤولية الوزارة التعليمية والتنموية؛ ولتحفيز القطاع الخاص للتميز في مشروعه التنموي الاستثماري؛ ولتمكين مواردنا البشرية من المشاركة في مسيرة التنمية الوطنية بكافة ما تحتاجه من تخصصات ومهارات مختلفة مستقبلاً.

فإن دور وزارة التعليم لم ينته، ولا يتوقف عند الدعم المادي، أو منح التصاريح لتلك المشاريع، فعلى الرغم من أهمية الدعم المادي لتمكين المواطنين من الدراسة الجامعية، والتي يعجز غالب أفراد المجتمع عن تحمل نفقاتها اليوم؛ ولديمومة تلك المؤسسات كذلك؛ فإن دور الوزارة المضاعف والأهم بدأ، منذ اتخاذ القرار الخاص بخيار تحفيز القطاع الخاص للاستثمار في التعليم الجامعي، فمسؤولية وزارة التعليم ثقيلة وهامة وجسيمة نحو ضمان تحقيق الجودة في مخرجات التعليم الجامعي، ليس الحكومي فقط وإنما الأهلي كذلك، لأن الموافقة على إنشاء مؤسسة للتعليم العالي تتضمن مسؤوليات مركبة تحوي في مضمونها الشامل معايير علمية وأكاديمية وإدارية وهيكلية تلتزم بها المؤسسة لضمان جودة عطائها ومخرجاتها، بحيث يتم في إطار تلك المعايير، قياس مستوى العطاء والجودة وكفاءة الأداء، من خلال مؤشرات وبرامج ومبادرات متنوعة يمكن من خلالها تقييم مستوى الجامعة، وبالتالي تقدير مدى كفاءة مخرجاتها؛ وذلك يقضي ألا ننتظر حتى تطرح الجامعة ثمارها فنكتشف أنه حصاد ضعيف أو غير صالح للاستخدام أو الممارسة العملية، والذي يتطلب بدوره المتابعة الدورية المستمرة والإشراف على كافة ما تم الالتزام به والتعهد على تنفيذه، سواء من مستوى تعليمي متميز، أو بيئة دراسية ملائمة أو تخصصات مطلوبة متمكنة أو هيئة تدريس أو نظام أكاديمي وإداري قادر على ضبط الأداء، وبما يكفل تميز المخرجات معرفياً ومواءمتها؛ إعداداً وتأهيلاً للمشاركة في سوق العمل أو استكمال الدراسات العليا كتخصصات دقيقة تخدم البحث العلمي ومردوده الإيجابي على التنمية ومتطلباتها.

ومن متابعة واقع مخرجات معظم جامعاتنا الأهلية خاصة الصحية منها، ومن خلال ما يطرحه الإعلام من إشكاليات وضعف منسوب لمخرجات التعليم الخاص، وأنه سبب في عرقلة التوظيف أو استكمال التأهيل، ليؤكد أنه لم تكن هناك معايير مطلوبة أو منصوص عليها على جميع المستويات، ولم تكن هناك متابعة أو تقييم لمستوى الأداء في الجامعات أو المعاهد التي تم دعمها لسنوات بتحمل تكاليف دراسة أبنائنا وبناتنا فيها؛ والدليل عدم اجتياز الغالب منهم اختبار التخصصات الصحية، أو ضعف المستوى العلمي في التخصصات الأخرى غير الصحية، لأن تلك الجامعات أو الكليات تحولت من مشروع تعليمي إلى مشروع استثماري ربحي تجاري بحت، وغير معني بجودة المخرجات، طالما حصل تكلفته المادية ويزيد، ومثلها في ذلك المدارس الأهلية التي تتنافس في تحصيل نسبة مائة بالمائة لطلابها، وهم لا يعرفون شيئا من المحتوى العلمي، سوى تلك الوريقات التي يزودونهم بها ويختبرونهم فيها، وكذلك حال الجامعات الأهلية (غالبها وليس جميعها) استثمرت أموالها على حساب جودة تعليم أبنائنا، طالما افتقد المشروع أبسط المبادئ العلمية والمهنية والأكاديمية لضبطه ومحاسبته.

 وفي ظل التوجه نحو خصخصة التعليم العام والدفع بالجامعات الحكومية نحو تنشيط جانب الاستثمار لدعم ميزانيتها وبرامجها التعليمية والتربوية، وفي إطار التطلع الوزاري نحو استقلال الجامعات؛ ومن خلال ما نشهده من إخفاق وضعف في مخرجات الجامعات لأسباب متعددة؛ فإن المسؤولية الوطنية والتربوية تقتضي الأخذ بالمبادئ الأساسية العلمية والمهنية لضبط التعليم الجامعي بكافة مضامينه وكافة قطاعاته (الحكومي، الخاص)؛ وأن تكون هناك معايير للجودة مشتركة تطبق على الجميع وتخضع مؤشراتها للمساءلة والحوكمة بشفافية عالية، وحبذا لو تم تشكيل مجلس أعلى للتعليم العام وآخر للتعليم العالي خارج عن إطار وزارة التعليم ولا يرتبط بها إطلاقاً، ليكون جهة عليا محايدة تقوم على حوكمة التعليم ومنسوبيه وتقييم مستوى أدائه؛ نحن لا نحتاج إلى مزيد من الجامعات أو الكليات وإنما نحتاج إلى جامعات نوعية تتنافس في جودة مخرجاتها وفاعلية تخصصاتها المتاحة، تلك الجامعات هي من يستحق الدعم والمشاركة في الاستثمار لتحفيزها لمزيد من العطاء المتميز، وإلا فإنها حاضنة لبطالة قادمة ومخرجات تعجز عن تحمل مسؤولية نفسها، فكيف لها أن تتحمل مسيرة تنمية أسرية ومجتمعية، أو أن تساهم في بناء صرح وطني نعتز به.