الشعور بالانتماء لوطن راسخ ودائم وآمن هو مكتسب عزيز على الإنسان، فهذا الانتماء لا يكون ماديا خالصا، إنما هو للوعي قبل أي شيء آخر، وهذا الوعي ينطلق في تشكيله من جماعة الوطن وهي العائلة والأصدقاء، وهي المدرسة والنخب التي تصنع وعي تلك الجماعة، وهي الذات التي تتشكل من خلال تلك الجماعة حتى لا تنفك عنها أينما حلت في أي مكان، ليقاس مستوى التعلق بالجماعة بحجم تشكيلها لذلك الوعي.

الإنسان اللامنتمي طارئ في وجوده، فهو وعي محتج أو مُبعد عن الوطن عن الوعي، فإما أن يكون شخصا مستبدا بغروره متمرد متعال محتج على وعي الجماعة، أو مُبعد أو مطرود بذاته أو بالآخرين من جماعة عجزت أو أبت عن احتضانه، فإما أن يخرج من الوطن لسقوطه أو سعيا لمال يحمي له الوطن الأم.

الحياة في المطارات ومحطات السفر وأثناء قطع طرق السفر الطويلة هي حالة من اللا انتماء للمكان والزمان أو حالة من اللا انتماء للوعي، إنها تطلق في الإنسان رغبته في الانتماء للمدينة الفاضلة، للمكان المثالي الكامل، غير أن الوصول غالبا ما يعيده إلى الانتماء، أو الحنين والرغبة بالعودة، فهي العودة إلى المكان وإلى الزمان إلى الجماعة والثبات إلى الوعي الدؤوب المثابر، وهي ليست عودة بموجب الحاجة أو بمبعث الإكراه، لأن اللامنتمي مغامر في قابليته، جسور على التخلص من وعيه، ولكنها عودة إلى الوعي إلى الوطن.

المهاجرون الدائمون في أوطان جديدة، أول ما يواجهون هو تحدي الانتماء، إنها الحياة التي يطلقون عليها بالغربة، وهي ليست إلا فراغا من اللا مكان واللا زمان، تعطي فسحتها لإعادة تشكيل الوعي أو التعلق بالذكريات، فإذا كان لهم مواليد في الهجرة صار انتماء الأبناء راسخا للوطن الجديد، لأنه الوطن الذي يشكل وعيهم، وهو ما يجعل بعض الآباء من أسرى الوطن الوعي، يرسلون أبناءهم إلى ذلك الوطن، أو يحاصرونهم بين العائلة والمدرسة التي تقلد الوطن، فهو خوف من الوعي الجديد، من الوطن الغريب عن الوعي الراسخ.

الحلم الطبيعي للمقيم الدائم أو المهاجر الدائم هو الحصول على الجنسية، حتى لو كانت له إقامة راسخة وآمنة، فالجنسية اسم للوطن، شهادة على حماية الوعي واستمراره حتى الموت، وهي شهادة قد تتعرض للاحتيال إذا عجز الإنسان عن الانتماء للوعي الجديد.

تطور المواطنة مع ظهور الدولة الحديثة الأكثر قدرة على احتكار السلطة هو أحد المكتسبات التي صنعها الإنسان لنفسه، والانتماء للوطن هو شكل من أشكال الغريزة الطبيعية لمقاومة الموت، إنها غريزة البقاء والإحساس بالقوة وإثبات الوجود، فتزيد المواطنة كما يزيد الوعي، فإذا دافع الإنسان عن وطنه ولو بكلمة فهو يغذي إحساسه بالانتماء للوعي، وإذا عمل في وظيفته بمسؤولية تفوق التزامات الأجر المادي، فهو يقدم أحد أرقى أشكال خدمة الوطن، وإذا غير أفكار الآخرين من حوله إلى الأفضل فهو يسهم في جعل الوطن أو الوعي مكانا أفضل، وإن كان نطاق المتأثرين بأفكاره محدودا، إلا أن الأفكار تنتشر مع الريح، أما من يثابر للتميز وتقديم عمل استثنائي أمام الآخرين فهو يبحث عن تقدير الجماعة أو الوطن ومكان في هذا الوعي، وهو يرفع من انتمائه للمكان والزمان، ليخدم الوطن، بل إن وجودية المواطن الصالح في احترامه للنظام، هو أحد أرقى أشكال المواطنة التي تعلي من إحساسه بالانتماء للمكان والزمان، وهو ما يسهم إجمالا في ازدهار الوطن.

عندما ننظر إلى المملكة العربية السعودية فهي وطن راسخ عمره آلاف السنين، تشكلت هويته الجديدة بالتقادم منذ ثلاثمئة عام، وذلك عبر أحد أعظم وأكبر وأكثر الكيانات السياسية تماسكا وقوة ومرونة في تاريخ الجزيرة العربية، وهو وطن ألقى بموروثات عظيمة شكلت أطباع أغلب سكانه، منها الرحمة والطموح والعزيمة والهمة والدهاء، وبعد النظر والإحساس بالعلو، وهو مما جعل سكانه وطوال آلاف السنين يصنعون أعظم الدول والحضارات، وليكونوا أحد الأمم الحاملة للواء الحضارة الإنسانية.

لقد أسهم هذا الكيان الأشد رسوخا وحيوية طوال ثلاثمئة عام في إعادة تشكيل وعي إنسان الجزيرة العربية، ليعيده اليوم إلى ذروة طموحه، ويصل به إلى أعلى مستويات الحيوية، وليزداد ترحيبا بكافة أطيافه الاجتماعية، وهو وطن يستحق أن نزيد ونرفع من انتمائنا لمكانه وزمانه، وأن نفخر بقدرته على البقاء والتغير والتقدم، لأنه لم يكن مجرد وطن، إنما وعي تشكلت موروثاته طوال التاريخ ليرى نفسه في عنان السماء.