تناقلت صحف سعودية خبر إصدار وزارة البيئة والمياه والزراعة، عقوبة جزائية على مسيء للحيوان، بعد ربطه ثعلبا وسحله بالسيارة. ونصَّت العقوبة على التشهير به في صحيفتين، ودفعه غرامة مالية قدرها 30 ألف ريال.

وهذه قصة للتجريم له والحكم بالعقوبة عليه، تعقُب قصة جريمته في شأن الحيوان وإساءته إليه. وفي كل من القصتين بناء مقصود لواقعة، تتوسط بين معان مجردة وبين الفعل الإنساني.

ما المعنى الذي تتوسط جريمة المسيء إلى الحيوان بينه وبين فعله؟! وهل يختص هذا المسيء لوحده بمعنى لا يتشاركه معه غيره ممن اقترف مثل جريمته؟!

حين تكون غريزة ممارسة العنف على الحيوان، وشهوة التعذيب، والاستمتاع بإيقاع الألم، واقتراف فعل دموي، وتمثيل الشراسة والقسوة… إلخ هي صفات هذه الجريمة، فإننا -بالبداهة- أمام معنى غير أخلاقي، وغير سوي، إنه معنى العدوان والشر والجريمة والتوحش، والافتقار إلى التعاطف والرحمة.

نعم، ضحية هذه الجريمة -على نحو مباشر- هو الحيوان، ولكنها ليست جريمة في حق الحيوان فقط، بل جريمة في حق الإنسان، لأنها عدوان على المعاني والأخلاقيات الإنسانية التي من دونها لا أمل في مجتمعات يعمرها العدل والسلام، ويشيع فيها التعاطف، ولا امتياز لمفهوم الإنسان.

عنوان النظام أو القانون الذي صدرت وفقه العقوبة على هذا المسيء إلى الحيوان، هو «نظام الرفق بالحيوان». ووزارة البيئة والمياه والزراعة هي التي أُوكِل إليها هذا النظام، بوصف الحماية للحيوان ورعايته جزءا من مهمة الوزارة ومسؤوليتها عن البيئة والزراعة.

هذا النظام الذي يدافع عن الحيوان ويحميه، لا يحميه باسم «العدل» بل باسم «الرفق». أنظمة «العدل» وقوانينه هي أنظمة المحاكم، ومسؤوليتها منوطة بوزارة العدل. وهي مسؤولية عن الحقوق بين الناس، والانتصاف للمظلومين منهم من ظالميهم، وذلك لا يشمل الظلم الموجَّه من الإنسان إلى الحيوان.

اعتداء الإنسان العبثي والغريزي بالتعذيب والقتل للحيوان، كما بدا في الجريمة موضوع حديثنا، هو جناية تجرح معنى «العدالة» في مفهومها الذي يتوهم الإنسان أنه حق من حقوقه التي لا تتسع معه لغيره من الأحياء.

لوزارة البيئة أن تحمي الحيوان، وأن تفرض على الإنسان العقوبات التي تَضْمَن الرفق في معاملته، حفاظا عليه، ولكن العقوبة التي تعالج الجريمة الوحشية في حق الحيوان، من باب الرفق به والحماية له، ليست كافية لتصور تلك الجريمة وتعقُّلها من حيث هي جناية في حق العدالة بمعناها الإنساني.

كيف يمكن الاطمئنان إلى من اقترف تلك الجريمة؟! والثقة به؟! وبأي معنى يَفْهَم هو جريمته ما دامت العقوبة له مشابهة لأي عدوان على البيئة، مثل الاحتطاب الجائر، أو الصيد الجائر؟!

من شأن المحاكم القضائية، في شأن الجنايات أن تعظِّم جُرم الجناية لدى الجناة ولدى عامة الناس، فالجناية تلاحق سمعة الجاني وتسوِّد سجله الأمني حتى بعد إيقاع العقوبة عليه.

ومن شأن المختصين في التحليل النفسي، لا سيما فروعه المختصة باتجاهات الشخصية، والميول العدوانية، وعلم نفس الجريمة، أن يقرؤوا في جرائم التعذيب للحيوانات، وتبادلها في وسائط الإعلام والتواصل الإلكتروني، ما لا يقتصر أذاه على الحيوان المسكين الذي وقع عليه الجُرم.

في هذا النمط من الجرائم الوحشية التي تَقْتَرف تعذيب حيوانٍ بائس، حرقا له، أو سحلا بالسيارة، أو تقطيعا لأجزائه… أو ما شاءت البشاعة والقسوة من صور العنف التي تنتهي بقتله، لا يمارس المعتدي -على الأرجح- عدوانه بعيدا عن عيون الناس، بل يوثِّق جريمته بالتصوير المرئي، ويحدُث بعد ذلك بثُّ بشاعتها وإعلانها على الناس جميعا.

التصوير والبث ليسا أمرا منفصلا عن فعل التعذيب أو عن جريمة القتل أو التشويه الوحشية، بل جزء منها، وهما جزء جوهري في الحادثة كلها. كأن الجريمة ارتُكِبت من أجل تصويرها وعرضها في تطبيقات التواصل المختلفة، وبالقدر نفسه كأن التصوير لها وعرضها إنما حَدَثا بسبب ما تتضمنه من عنف ودموية وألم.

لا يجوز -والأمر كذلك- أن يقف تجريم الحادثة عند من اقترف العدوان على الحيوان، ولا اختصاصه لوحده بالعقوبة. من قام بتصويره، ومن بثَّ التصوير، ومن تناقله شركاء في الجُرم، ويجب ألا يفلتوا من النسبة إلى الجريمة والوسم بها والخضوع لعقوبتها الجزائية.

وإذا كانت علاقة التصوير بجرائم العدوان على الحيوان وغيرها، وتأثيره في حوادثها، على النحو الذي وصفناه، فإن تطبيقات التواصل والإعلام الإلكتروني التي تتيح عرض هذه البشاعات، جزء من دائرة الجريمة: فلماذا لا تَمْنَع بثَّها؟ ولماذا لا تُغلِق الحسابات التي تداولتها؟ ولماذا لا يكون في علم أصحاب هذه الحسابات أن التطبيق نفسه أو من يديره يجرِّمهم ويتيح معرفتهم والقبض عليهم.

لو كانت حادثة سَحْل الثعلب التي صدرت عقوبة الوزارة بشأنها الأسبوع الماضي، أول حادثة من هذا النوع، لكان علينا -على الرغم من الوحشية التي تصدمنا فيها لوحدها- أن نتطامن قليلا وأن نقتصد في قلقنا، فالاستثناءات والحوادث الشاذة تبقى شاذة ولا تدعو إلى تضاعف القلق.

ولكننا لا ننسى جملة حوادث من نوعها لا تقل عنها عنفا، وقد تفوقها وحشية وبشاعة، تتوالى منذ سنوات، منها سحل كلب، وحرق آخر بالنار وهو حي يسعى بعد رش سائل الوقود عليه، وقطع ذيل قطة بالفأس.

وهناك نص في الخبر الذي تحدَّث عن العقوبة، على ملاحظة الوزارة: «تنامي ظاهرة تعذيب الحيوانات ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي». وحديث المتحدث باسم الوزارة الدكتور عبدالله أبا الخيل، عن وقوع الإساءات من هذا القبيل في عدد من المناطق.

لم يجد الإنسان -منذ القديم- ما يُعرِّف به ذاته لذاته، سوى تميُّزه عن الحيوان وامتيازه عليه، فالإنسان حيوان «عاقل»، والعقل -وليس الدماغ أو الشعور أو الغريزة- الذي يميز الإنسان عن الحيوان، مقصود به على هذا الصعيد، ما يهدي إلى الخير والفضيلة والنبل الأخلاقي.

ويأتي التعرف على دلالة العقل في لغتنا العربية، عبر مصدر اشتقاقه، فهو «المنع والحبس» من «عَقَلتُ البعير أعْقِلُه عَقْلاً، إذا منعته من الحركة». ولذلك أصبح من المتداول في مفهوم العقل أنه: «يمنع صاحبه عن التورط في المهالك، ويحبسه عن ذميم القول والفعل».

لكن ذلك لا يحدث تلقائيا وعلى وجه الضرورة من كل إنسان، وهذا يقدح في تعميم التعريف للإنسان بالعقل، أو يخصص إنسانية الإنسان من هذا المنظور في صفوة من بني الإنسان.

لذلك رأى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، أن قواعد الإيمان والأخلاق فوق العقل، وأن الصوت الذي ينادي في أعماقنا ليدلَّنا على الخير والفضيلة، هو خارج عن مملكة العقل، وهو فطري فينا، ويسميه «صوت الواجب».

أجل، بصوت «الواجب» المُنكِر -على الإنسان من داخله- للشر والداعي له إلى الخير، يكون الإنسان إنسانا. ومن هذه الوجهة يمكن أن نبصر في الإنسان صفات حيوانية، ويمكن أن نبصر -أحيانا- في الحيوان صفات إنسانية.

والخلاصة من ذلك أن الرغبة العبثية في تعذيب الإنسان للحيوان، لا يمكن تصنيفها في صفة إنسانية بالمعنى اللائق بالإنسان والمخصِّص له، وهذا بالطبع غير مدهش، أما المدهش فهو أن شهوة التعذيب والاستمتاع بإيقاع الألم ليست -أيضا- صفة في الحيوان!