شعرت بغصة وأنا أطل من شرفة فندق المنصور الشهير متذكراً أبا جعفر المنصور الذي أسس بغداد قبل 1300 سنة في عام 140هـ، وأرى عن شمالي نهر دجلة يحدثنا كالنيل أحاديث القرون الغابرينا، وعن يميني السفارة الإيرانية التي تغطي متاريسها الأسمنتية وحراساتها المدججة ملامح المنطقة الخضراء، وخلفي مبنى الإذاعة التي أصبحت شبكة التلفزيون العراقية، حيث أجريت للزعيم عبدالكريم قاسم محاكمة سريعة أعدم على إثرها في ساحة الإذاعة عقب انقلاب عبدالسلام عارف، عبَر كل هذا التاريخ المحتشد في ذاكرتي، دقائق يسيرة وعيناي تتنقلان على شاطئ دجلة والكرادة والكرخ، حيث أقف وشفتاي تدندنان ببيت محمد بن زريق البغدادي:

أستودع الله في بغداد لي قمرا

بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

في لقاء رؤساء تحرير الصحف السعودية في نقابة الصحفيين العراقية تحدثت أمام عشرات وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة عن نقطتين؛ أولاهما: أن حب العراق ليس مغروساً في وجداننا الشعبي وخيالنا الشعري وعاطفة العروبة المشبوبة فحسب، وإنما هو أيضاً مستقر في معارفنا وثقافتنا منذ الصغر، وقلت لهم: إن جيلنا درس وعمره 13 عاماً حضارات سومر وأكَّد وبابل وأشور، وعايش فتوحات العراق خطوة خطوة، وعاش عز الدولة العباسية، وتفطر قلبه ألما على سقوط بغداد عام 656 هـ على يد المغول وخيانة المؤيد ابن العلقمي، وعاش كل أفراح وأتراح العراق على مر العصور، والنقطة الثانية: هي أن السعودية اكتوت بنار الإرهاب من القاعدة إلى داعش، مثلما اكتوى العراق، وفقدت الكثير من الشهداء المدنيين والعسكريين.

يصف الرئيس العراقي محمد فؤاد معصوم السعودية بأنها الشقيقة والصديقة، وهي بهذا تمتاز عن غيرها من الدول، فالشقيقة تقوم على الأخوة، والصديقة تقوم على الإرادة، وهذا ما لمسناه على مستوى الشعب ومستوى القيادة والنخب، وكما قال لنا أحد المسؤولين: إنه بصرف النظر عن تقلبات السياسة والمواقف الرسمية العراقية فإن 95% من الشعب العراقي يرى في السعودية القوة والعز والاستقرار والسند، وكما يقول محمد الجميلي وزير التخطيط، وهو من عشيرة الجميل بالفلوجة التي منها عبدالسلام وعبدالرحمن عارف، فإن 90% من العراقيين أصولهم من الجزيرة العربية، وتظهر تجليات هذه العلاقة حين يرى ضابط المرور في شارع المنصور الوفد السعودي بزيهم الرسمي فيحلف أنه يحب السعودية والسعوديين، ورواد شارع المتنبي الشهير وبعض أصحاب المكتبات العراقيين يتحدثون عن السعودية بحب وفخر، وبعض من التقينا من رموز القيادة العراقية والنخب على اختلاف مرجعياتهم السياسية والمذهبية يتحدثون عن هذه اللحمة التاريخية، وفي لقائنا مع الدكتور إبراهيم الجعفري وزير الخارجية الذي رأس المجلس الانتقالي ورئاسة الوزراء، يتحدث وهو المولود بكربلاء عن أصوله بأشيقر، وكيف أنه التقى بالملك سلمان عندما كان أميراً للرياض وتحدثا عن أشيقر، ووعده الملك سلمان بإرسال كتب ومعلومات عن مدينته، ولما التقاه في المرة الثانية سأله عن الكتب التي أرسلها له، فأجاب الجعفري بأنها لم تقع في يده، فأعاد الملك إرسالها له للمرة الثانية، ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري يقول لنا: كلنا حريصون في العراق على العودة للمحيط العربي وخاصة السعودية، والسيد عمار الحكيم رئيس تيار الحكمة يقول لنا: أنا جذوري من المدينة المنورة، والدكتور كاظم العقابي رئيس هيئة المنافذ السعودية يقول لنا: انقلوا تحياتنا إلى أهلنا في السعودية، ورأيت في جوال مؤيد اللامي نقيب الصحفيين العراقيين الذي يفتخر بأنه من بني لام من قبيلة طيء عشرات الرسائل التي تشكره على دعوته للإعلام السعودي لفتح نافذة لهم بعيداً عن الإعلام الأيديولوجي الموجّه، وسمعت عددا من الاتصالات التي وردته من النخب العراقية محتفية بالسعودية ومحبة لها، ورئيس الوزراء حيدر العبادي الذي تحدث لنا كيف أن العلاقات مع السعودية تسير بشكل جيد، وإن لم تكن في جميع المجالات، فإن المهم هو تعميق العلاقة بين الشعبين وليس فقط الاقتصاد والتجارة، وأن جنوب العراق (الشيعي) هو من أكثر المرحبين بفتح العلاقات مع السعودية لأنه أكثر من عانى من تفجيرات الإرهابيين.

ومن الطبيعي في بلد كالعراق تفتخر إيران بأنها سيطرت على عاصمته ضمن العواصم الأربع، أن يكون هناك إعلام عميل وموال لطهران، يسوؤه ويوجعه تحسن علاقات الأخوّة السعودية العراقية، فيهاجم حتى المسؤولين العراقيين الذين استقبلوا الوفد الإعلامي؛ فصحيفة المراقب العراقي مثلا الممولة من إيران نشرت عنوانين عريضين على صدر صفحتها الأولى يوم 25 فبراير، هما «انتقادات واسعة للهاث المسؤولين العراقيين لكسب ود الرياض، استقبال حكومي رفيع المستوى لوفد الإعلام السعودي المعادي»، في الوقت الذي غطت فيه كل الصحف العراقية الزيارة على صدر صفحاتها ونقلت التلفزيونات رسالة يومية من 5- 7 دقائق على قنواتها.

 إن من أفضل نقاط القوة في بناء علاقتنا الجديدة مع العراق هو هذا المد الشعبي العروبي في العراق المحب للسعودية والسعوديين، وبعيدا عن اللقاءات المرتبة سلفاً أو التصريحات الدبلوماسية للمسؤولين، فإن ردات الفعل التلقائية المباشرة تعكس هذا القرب بين الشعبين، ففي لقائنا مع وزير العمل والصناعة العراقي محمد شياع السوداني في مطعم السفينة انتهز سفيرنا السعودي عبدالعزيز الشمري الفرصة وحضر بعد استئذان وقتها حفل زفاف في ذات المكان، وكان احتفاء أهل الفرح والمدعوين بمبادرة السفير وامتنانهم وحفاوتهم به وبمرافقيه فوق الوصف والتوقع، وحتى في الأمور المرتبة سلفاً تأتي النتيجة إيجابية للسعودية، ففي لقائنا مع وزير الداخلية قاسم الأعرجي المعروف بانتمائه لمنظمة بدر الموالية لإيران حرص على أن يلتقي بنا وسط حشد من وسائل الإعلام المجهزة سلفاً في أحد أكبر المولات التجارية ببغداد، وهو مول المنصور، والاجتماع بالوفد السعودي في أحد مقاهي المركز التجاري في الدور الثالث، ومع أن من أهدافه في هذه المرحلة الانتخابية أن يوصل رسالة لنا وللعراقيين أن وزير داخلية العراق التقى بوسائل الإعلام السعودية في مكان عام ومزدحم بأمن وأمان دون خوف، وهو حق مشروع لهم في استثمار الزيارة من جانبهم كما يرون، مع أن الترتيبات الأمنية المسبقة والتواجد الكثيف لهم باللبس المدني، يكشف عن وجودها حركات ونظرات وثقة رجل الأمن التي تختلف عن النظرة المتوقعة للمتسوق العادي البسيط، المليئة بالدهشة والمفاجأة والارتباك، وهو أمر طبيعي من رجال الداخلية، فهم قد خرجوا لتوهم من معركة الإرهاب ولم ينتهوا منها بشكل كامل. غير أن الجانب الذي لم يكن مرتبا هو أن سفيرنا الذكي الخلوق كان مرافقاً وظاهراً في هذه الجولة، وخرجت ردود الأفعال لدى الإعلاميين والنخب العراقية بأن السعودية جادة في تقاربها مع العراق، ولا مانع لديها في الظهور والحديث علنا وعلى رؤوس الأشهاد مع كل المكونات، ولو كان رجل منظمة بدر القوي قاسم الأعرجي بصفته مسؤولاً عراقيا، وبصرف النظر عن ولاء منظمة بدر وعلاقتها بإيران، وهذه النتيجة لم تكن بالتأكيد في ذهن مستشاري الأعرجي الذين خططوا للقاء.

ولاستثمار نقاط القوة علينا أن نتواصل مباشرة مع الأشقاء العراقيين في داخل العراق وعدم ملء سلالنا وإعلامنا بكروت المعارضة في الخارج، لأن المعارضة لها أجندتها ومعركتها الخاصة بها التي لا تتطابق بالتأكيد معنا، ولا داعي لأن نخوض معركتها، فكنز الحب الحقيقي هو داخل العراق، وإن كان هناك أقل من 10% لن يحبونا، قيادة وشعبا وأرضا، حتى لو أشعلنا أصابعنا شموعا لهم، فولاؤهم وعقيدتهم بغض لا حب، وكيد لا تعاون.