في داخل أحد «كافيهات» الرياض: مرحبا.. لو تكرمت «كفي لاتيه». أبشر طال عمرك. أوووه الأخ سعودي! نعم عزيزي، وكل فريق العمل بالكافيه سعوديون! مسح بصري سريع على طاقم العمل، حوالي سبعة شباب، مع دردشة ودية تحفيزية سريعة، تنوع واضح بالأشكال والألوان والأعمار، وجوه مبتسمة، وعيون تعكس الطموح والتحدي. «الدكتور» هو قائد الفريق، نعم يحمل درجة الدكتوراه وموظف بوظيفة مرموقة صباحا، وبعد المغرب يلتحق بالفريق لصناعة القهوة وتقديمها للعملاء. باقي الطاقم ما بين موظفين نوعيين وطلاب جامعات بتخصصات ممتازة، الكافيه صباحا مغلق لظروف المجموعة الدراسية والعملية، وبعد العصر يبدأ الإنتاج والعمل.

يا الله، ما هذا الجمال! ولكن سرعان ما عدت إلى الماضي، تحديدا طفولتي، كنت وشقيقي برفقة والدي -رحمه الله- نبيع منتجات مزرعتنا في سوق الخضار -بمدينة حائل- في الصباح الباكر، أثناء عطلة الأسبوع والإجازة الصيفية، داخل السوق نبيع على القريب والصديق والغريب، والكل يشجع ويحفز ويدعم هذا التوجه، والمحطة ممتلئة بالأطفال والشباب البائعين صباحا برفقة الآباء.

مفهوم العمل الحر ومقابلة الجمهور غُرِسَ في وجداننا منذ الطفولة، ولكن الغريب العجيب -الذي لا أستطيع فهمه- عندما تخرجنا من الثانوية وجدنا أنفسنا مكبلين ومقيدين بثقافة العيب التي تورمت وتضخمت بشكل سريع في جسد المجتمع، حتى أصبح الواحد يترفع ويتعالى ويزدري الكثير من المهن الشريفة، كاتب هذه السطور أخذ عاما كاملا في قطار البطالة، مفضلها على امتهان بعض المهن خوفا من سهام النقد الاجتماعي، وحرصا على عدم اهتزاز الصورة أمام المحيط الأسري والاجتماعي.

بالله عليكم، كم من الفرص الوظيفية التي أضعناها بسبب هذا التعالي حتى بلغت نسبة البطالة في الربع الثاني من عام 2017 حوالي 12.8%، بواقع 7.4% للذكور، و33.1% للإناث، حسب تقرير الهيئة العامة للإحصاء السعودية، وكم من المليارات التي حولتها العمالة الوافدة إلى أوطانها بسبب الحالة المرضية التي أصابتنا خلال العقود الماضية، حيث بلغت قيمة تحويلات الأجانب العاملين بالسعودية خلال 2017 نحو 141.6 مليار ريال، بينما قدرت التحويلات خلال 2016 بنحو 151.8 مليار ريال، حسب إحصاءات مؤسسة النقد العربي السعودي. مَنْ الذي ضخَّم وأصَّل هذا التعالي في مجتمعنا رغم أن أجدادنا الطيبين كانوا يعملون بكل المهن: من بناء بيوت الطين، والفلاحة، والرعي، وغيرها من الحرف المختلفة.

الإجراءات الرسمية التي اتخذتها الحكومة أحدثت الفرق في التحويلات المالية للعمالة الوافدة، فقد سجلت تراجعا بنسبة تقدر بـ7% خلال عام 2017 مقارنة بالعام الذي سبقه، وأيضا كسرت ثقافة العيب وأصابتها في مقتل، فتغيرت وتبدلت المفاهيم وتشكلت ثقافة حب العمل والإنتاج عند الشباب والشابات وأعربوا جملة: «لا يا شيخ... ما بقي إلا أنا اشتغل بها الوظيفة»! فعلا ماضيا، وتمكن الكثير منهم من العمل في المولات، والمطاعم، والكافيهات، ووسائل النقل. والبعض الآخر سيحصل على فرصته من خلال قرارات اقتصار الكثير من المهن والأنشطة التي أعلنت عنها وزارة العمل والتنمية الاجتماعية على السعوديين والسعوديات.

ورم «ثقافة العيب» تمّ استئصاله بـ«رؤية» وطن ثاقبة، ووعي اجتماعي سيشكل -بإذن الله- وطنا طموحا، ومجتمعا حيويّا واعيا.