حفاوة بالغة وترحيب كبير قوبل بهما ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لدى زيارته إلى بريطانيا، بما يظهر المكانة الكبيرة التي تتمتع بها المملكة العربية السعودية لدى كافة دول العالم، وحرص الدول الكبرى على تعميق وتعزيز علاقات التعاون معها في كل المجالات، لاسيما السياسية والاقتصادية منها. وهذه المكانة المرموقة التي تتبوؤها بلادنا لدى الدول الأخرى لم تأت إلا نتيجة للسياسات الحكيمة التي تتبعها حكومتنا، واتخاذها مواقف معتدلة من القضايا التي تشغل بال العالم، ودعوتها إلى الاعتدال ومحاربتها للتطرف والإرهاب، وقبل ذلك وقوفها إلى جانب الدول العربية والإسلامية في قضاياها العادلة، انطلاقا من كونها أرض الحرمين الشريفين ومهد الرسالة الإسلامية. لذلك كله اكتست عاصمة الضباب – في سابقة لا تحدث إلا نادراً - بصور ولي العهد التي علِّقت في لوحات كبيرة في أكبر شوارع المدينة، إضافة إلى الكثير من سيارات النقل العام والخاص، مذيلة بعبارات الترحيب.

وكانت بريطانيا حريصة على الإعداد الجيد للزيارة، وتمثل ذلك في التصريحات اللافتة التي أطلقها وزير خارجيتها بوريس جونسون قبل الزيارة بأسبوع كامل، عندما وصف الأمير محمد بأنه «مصلح اقتصادي يحمل رؤية متكاملة». كما تصدت رئيسة الوزراء البريطانية لأصوات المعارضة التي تأثرت بحملات التضليل التي قادتها بعض الجهات المعادية، مؤكدة أن الدور الذي يلعبه التحالف العربي في اليمن «هو دور بنّاء، وأن المملكة لم تتدخل في اليمن إلا تلبية لطلب من الحكومة الشرعية، وبموافقة مجلس الأمن الدولي، بهدف تحييد ومواجهة الأخطار الإيرانية، لذلك لا مجال للحديث السالب عن ذلك، وقطعت ماي بأنه إذا كانت هناك أضرار أصابت بعض المدنيين نتيجة للمواجهات، فإن ذلك نتيجة طبيعية للحروب، وهناك معالجات سريعة وكافية قامت بها دول التحالف.

ماي، حذرت كذلك من مغبة المساس بالعلاقات المتميزة التي تجمع المملكتين، مشيرة إلى أن السعودية تعد من أكثر الدول التي ترتبط بعلاقات تجارية واستثمارية مع بلادها، بما يقدر بأكثر من 200 من المشروعات المشتركة ذات القيمة العالية، وأن الشركات البريطانية تنشد باستمرار العمل من أجل تأسيس وإيجاد حضور فاعل في السعودية التي وصفتها بأنها بوابة رئيسية لدخول الشرق الأوسط والعالم العربي، وأنها سوق نامية بشكل جيّد. وهذا التصريح الحاسم بعثر في دقائق معدودات حملة إفك مكثفة وقفت وراءها وسائل إعلامية عربية معروفة، في مقدمتها قناة الجزيرة، إلا أنها ارتدت عليها سلبا.

لم ينتظر الإعلام البريطاني العريق حتى بدء الزيارة ووصول الضيف الكبير إلى لندن، وأفردت كبرى الصحف مساحات واسعة لتغطية الزيارة، تطرقت فيها إلى الدور الكبير الذي يلعبه ولي العهد في إحداث التغيير الإيجابي في المملكة، ومن ثم في العالم العربي الشرق الأوسط بأسره، وأشارت إلى أنه أحدث كثيرا من الحراك الإيجابي، وأطلقت عليه لقب «صانع التغيير». وسلّطت كذلك الضوء على رؤية المملكة 2030، مشيدة بها ومؤكدة أنها نتاج إبداعي للعقول السعودية، وشددت على أن تنفيذ مخرجات الرؤية بالشكل الكامل سيكون كفيلا بنقل المملكة إلى مرحلة جديدة من تاريخها، تزاحم بها كبريات الدول المتطورة. كذلك سلطت الصحف البريطانية الضوء على الإصلاحات الاقتصادية التي اتخذها ولي العهد، وفي مقدمتها محاربة الفساد المالي والإداري، وإقرار مبادئ الشفافية وعدم الإفلات من العقاب، وهي الحملة التي أسفرت عن دخول عشرات المليارات من الدولارات في شكل استثمارات أجنبية إلى المملكة خلال الأشهر الماضية، وفق ما أكدته صحيفة وول ستريت جورنال.

ومع أن السعودية تحظى باحترام الدول الأوروبية وتقدير قادتها منذ إنشائها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – إلا أن طرح رؤية 2030 أسهم بصورة كبيرة في زيادة اهتمام العالم بالمملكة، حيث اهتمت بها الدول العظمى، وأبدت كبريات الشركات العالمية استعدادها للإسهام في تنفيذها، والمشاركة في تحقيق التطور الاقتصادي الذي يرمي إلى إلحاق المملكة بركب الدول الرائدة في اقتصاد المعرفة، القائم على الاستفادة من ثورة التكنولوجيا التي نعيش في ظلها، والابتكارات التقنية الهائلة التي يشهدها العالم بصورة متتالية وشبه يومية. وبلغ الاهتمام البريطاني بالمشاركة في تنفيذ الرؤية أن قامت لندن بتعيين ممثل خاص لها معني بالمشاركة فيها، هو كين كوستا، الذي قال في تصريح صحفي إن الكثير من دول العالم وضعت خططا اقتصادية طموحة في السابق، لكن ما يميز رؤية المملكة 2030 هو أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لم يكتف بوضعها فقط، إنما وضع خطة تحول واضحة لكل قطاع. وأضاف «مع ذلك تم وضع مؤشرات معينة لقياس أداء هذه القطاعات تتم مراقبتها من قبل مسؤولين أكفاء، وهناك حماس كبير لإنجاح تحقيق أهداف الخطة».

ومع أن الزيارة يتوقع أن تشهد توقيع اتفاقيات تجارية بين الجانبين بمبلغ يتجاوز 100 مليار دولار، حسبما أكدت المصادر، إلا أن هذه الاتفاقيات ستكون مختلفة هذه المرة عن مثيلاتها التي تم توقيعها في السابق، ولن تكون مجرد عمليات استيراد أو تنفيذ مشاريع، بل تقوم بشكل مباشر على نقل التقنية وتوطينها في المملكة، وإنشاء مصانع نوعية مشتركة تقود بلادنا إلى مصاف الدول الرائدة في مجال التصنيع، وتسهم كذلك في إيجاد عشرات الآلاف من الفرص الوظيفية النوعية، وعقد دورات تأهيل مكثفة للشباب السعودي، لتسلم راية الإنتاج مستقبلا. وهذا التغير الإستراتيجي الهام في نوعية الاتفاقيات المشتركة نابع بشكل أساسي من الرؤية.

ختاما فإن الترحيب الكبير الذي وجده ولي العهد، والحراك الفاعل الذي يرافق كل تحركاته الخارجية يثبت حقيقة هامة، هي أن المملكة تركز دائما على اتخاذ الفعل، وتترك لغيرها ردوده، وتشدد على التخطيط والإنجاز، وتدع لغيرها العويل والنواح.