أصبح الوسم #هلكوني شهيرا في تويتر منذ أكثر من خمس سنوات، وهو وسم معني بفضح أسماء الحاصلين على شهادات وهمية من السعوديين أو من العاملين في السعودية من غير السعوديين، في كل المستويات والتخصصات، لاسيما شهادات الماجستير والدكتوراه، والتشهير بالجامعات الوهمية والزائفة التي باعتهم الوهم مقابل المال.

وقد ارتبط هذا الوسم بالدكتور موافق فواز الرويلي، الأستاذ بجامعة الملك سعود وعضو مجلس الشورى سابقا، بعد أن غادره شريكه في التأسيس له، طالب الدكتوراه -آنذاك- عبدالله الشهري، أو «فارس هلكوني» على حد وصف الدكتور موافق له. وما تزال مغادرة الدكتور الشهري للوسم وهجرانه لحسابه في تويتر علامة - فيما يبدو- على مشقة التصدي لما يثيره الوسم، والمخاطر المحتملة من ورائه.

واستمر الدكتور موافق وحده، في تحمل المسؤولية التي تلزم عنه، وفي إمداده بكل ما يستجد من أحداث الحصول على شهادات زائفة، وطَرْح الأسئلة المحرجة على الأشخاص الوهميين أنفسهم، وعلى الجهات التي يعملون فيها، وبعضهم يتسنم مناصب قيادية، وعلى الجهات التشريعية والرقابية، والجهات المسؤولة عن التعليم.

وقد نشأ باسم الوسم حساب في تويتر يحمل رابط مدونة على الشبكة، مثبت عليها، وبتحديث دوري، أسماء أصحاب الشهادات الوهمية لدرجتي الماجستير والدكتوراه، وصورهم والجامعات الوهمية التي حصلوا منها على الشهادات الزائفة، وجهات عملهم.

ولابد أن تعترينا الصدمة والإحساس بالفجيعة، ونحن نطالع في تلك المدونة أسماء معروفة تماماً بحكم مناصبهم ذات المسؤولية، أو عملهم الذي يضعهم في دائرة الضوء، أو طبيعة اختصاصهم ومهنتهم التي تُعظِّم قدرهم ومكانتهم وتوجب الاحترام لهم والالتفات إليهم: مديري تعليم، ومشرفين تربويين، ودعاة ووعاظاً، ومديرين عامين، ومستشارين، ورجال أعمال، ومديري تحرير صحف، وصحفيين، وإعلاميين، وكتابا، وشعراء، وأكاديميين، ومحامين… إلخ

الصدمة التي لابد أن تفجعنا، هي من أن يقترف أمثال هؤلاء تزويرا وتزييفاً، لاسيما والتزوير المنسوب إليهم هو تزوير في جهة الاتصاف بمرتبة علمية عليا وأهليتها، مرتبة تستدعي بطبيعتها تقدير صاحبها الذي تضعه مدونة هلكوني في خانة اللصوص، وتمتحنه علناً في شرف الأمانة والصدق.

وهي صدمة الشعور بالسقوط الأخلاقي؛ فلا أحد من هؤلاء، على كثرتهم، استطاع النجاة من التهمة، والبراءة لضميره وأخلاقه، إلا من أعلن تمزيق شهادته، وهم قِلَّة تشير المدونة إليهم بالثناء والشكر. ولو أمكن لأحدهم أن يبرأ من التزييف لغدا الدكتور موافق مفترياً على الناس بالباطل، ولكانت العقوبة التي سيجازى بها منه وحده، كافية لإنهاء سيرة الوسم وإغلاق المدونة والحساب المتصلَيْن به.

ولا تقتصر الصدمة على فجيعتنا في الأسماء التي نكتشف سقوطها، ولا على كثرتهم، فهي -إلى ذلك- صدمة من جهات عملهم، وجهات انتمائهم المهني التي لم تكترث بالاتهام لهم؛ لا بالمدافعة عنهم إن كانت على قناعة بشهاداتهم، ولا بالندم على ما أولتهم من ثقة والانتقام لحسها بالمسؤولية من خديعتهم لها وغدرهم بها. كأن جهات العمل تلك، أو الاعتبارات المهنية بمنجاة من أن يُتَّهَم منسوبوها بما يقدح في صدقيتهم وأمانتهم، كأن لها أن تَعُدَّ جُرمهم هذا، مسألةً تتعلق بأشخاصهم من دون مساس لعلاقتهم بها، خصوصا وهو جُرْمٌ يتعلق بتزوير مؤهلات علمية تُوهِم بما ليسوا أهلا له!

ولكن صدمتنا الكبيرة تلك مهما بلغت أقل مما علينا أن نشعر به من فجيعة تجاه الأنظمة الجزائية التي من شأنها أن تصون المؤهلات العلمية من التزييف والإيهام والتزوير، وأقل مما علينا أن نُفجَع به من الجهات التشريعية والعدلية والرقابية التي تبدو بمنأى عن الشعور بخطورة الشهادات العلمية المزيفة.

لا يوجد إلى الآن -فيما أعلم- مادة نظامية مطبَّقة، يمكن أن يُصنَّف بها أي «ادعاء» بالحصول على شهادة من جامعة وهمية، في عداد جريمة تستوجب العقوبة، ويُوجِّه الاتهامَ لمقترفها مدع عام، بتكييف محدد لا يقتصر على عدم الاعتراف بالشهادة، أو عدم قبول التوظيف أو الترقية بها.

إنها جريمة تزوير وتزييف لحقيقة المؤهل الذي يحمله المتَّهَم؛ وعدوانُها -عندئذ- يقع على الجمهور الذي يُوهَم بمؤهل لا حقيقة له، وعلى أصحاب المؤهلات الحقيقية الذين تؤذي هذه الممارسات معنوياتهم، وعلى القيم الأخلاقية والعلمية الحاكمة في المجتمع حين يغدو الانتساب إلى شهادة زائفة مقابل المال ممارسةً مُعلَنَةً من دون خوف من المحاسبة والعقوبة!

واضح -إذًا- أن الوسم «هلكوني» يؤدي مهمةً أخلاقيةً وعلميةً ووطنية: مهمة تدافع عن قيم الصدق والأمانة، وتحارب الزيف والإيهام بالباطل، والمتاجرة بالمثاليات، وفساد الضمير. ومهمة تصون العلم وأهله من الطارئين عليه الذين يتخذون من شاراته ورموزه ودرجات التأهيل فيه وَجَاهة ورقية وفخراً كاذباً. ومهمة تصون الوطن ومؤسساته من فقدان مقومات التميُّز والتمايز، ومن ضياع الحقوق غشَّاً وافتراءً وخداعاً.

وواضح -كذلك- أن الدكتور موافق الرويلي، وهو يقود ذلك الوسم، ويستشرف تلك المهمات، ينذر نفسه للتحدي والمغالبة، ويضحِّي بهدوئه وببعض ما يربطه من علاقات الصداقة والمجاملة، ويتحلى بالغيرة واستشعار الواجب والشجاعة والحكمة ووضوح الحجة. وهذا دور بطولي بالمعنى الوطني والعلمي والأخلاقي.

وليس ذلك لأن موضوع جهد الدكتور يتضمن، وحَسْب، غايات ذات عموم ولها صفة المعاني ذات القيمة والجواهر التي لا مجال للاختلاف عليها، فإلى ذلك، لا تبدو مهمته سهلة؛ وما يتعرض له من هجوم، وما يواجهه من تحد، وما تعجز عنه حُجَجه الدامغة والفاضحة للمزورين والوهميين من عدم القدرة على النيل منهم طوال هذه السنين، وكثرتهم، ومناصبهم، وتزايد عددهم… إلخ دوال ذلك العُسْر، ومعالم طريقه الكأداء.

وليست جرأته على فضح أولئك المزورين، أكثر إثارة للعجب من نبرة الثقة في تثبُّته مما يدعيه، ووضوح حجته ونفاذها. يقول -مثلاً- في أحد ردوده: «أنا لا أغرد في الهواء الطلق يا عزيزي، أنا أغرد بوثائق لا تقبل الأخذ والرد، والكرة في ملعب الوزارة». والوزارة التي يعنيها في رده هي التي نظمت جائزة مشهودة عن التميز فاز بها عدد من منسوبيها في أنحاء المملكة، وكان أحد مسؤولي الجائزة يحمل دكتوراه وهمية من الجامعة الأميركية بلندن.

أما أن تكون كُرة الاتهام في مرمى الوزارة، فمعناه أن المشكلة لا تخص الوهمي وحده، بل تتعداه إلى الوزارة التي تدلل على تناقضها: فكيف لجائزتها أن تكون مقنعةً بحفاوتها بالمتميزين، وهي تعيِّن مسؤولاً بالجائزة بدكتوراه وهمية؟!

والمهم من ذلك أن ما ينبهنا إليه موضوع التزوير للشهادات العليا الذي يتصدى له الدكتور موافق الرويلي، لا ينفصل عما يتفشى في التعليم الجامعي من السرقات العلمية، ومن تأجير من يكتب الرسائل والبحوث، ويختار موضوعاتها، ويجري استباناتها ويحلل إحصاءاتها ويصحح لغتها…إلخ. وخدمات التأجير المتنوعة هذه التي تنتهي إلى تزوير المؤهلات، تعمل علناً، عبر الدعايات التي تحملها أحياناً ملصقات على واجهة محلات «خدمات الطالب»، أو تأتي في رسائل عبر تطبيقات التواصل والإعلام الإلكتروني.

وأظن أن العجز عن اجتثاث الشهادات الوهمية، أدل على أن تعليمنا لن يشفى سريعا من أسباب ضعفه، وأن أشكال التزوير والسرقة الخفية أحرى أن تبقى مستعصية على العلاج.