التقرير الإحصائي الذي أعدته جامعة الملك فهد للبترول والمعادن مؤخراً عن براءات الاختراع العربية المسجلة بأميركا يبعث على الفرح والفخر. فالمملكة العربية السعودية تستأثر بما نسبته 66% من اختراعات الوطن العربي بأسره. كما وأن جامعة الملك فهد لوحدها تكاد تكون محلّقة في فضاء خاص بها مقارنة بمؤسسات التعليم العالي الأخرى: 91% من براءات الاختراع المسجلة لجامعات سعودية هي لمنسوبي جامعة البترول والمعادن. ولو تخيلنا أن جامعة الفهد هي دولة عربية مستقلة، فإنها كانت ستحل بالمركز الثالث في ترتيب عدد براءات الاختراع: قبل دولة الإمارات، وبعد باقي المؤسسات السعودية.

كلما تحدثنا عن منجز جامعي سعودي، جرنا الحديث جراً إلى "مناحة 2006"؛ حين تحدثت الصحف عن "التصنيف العالمي" الخالي من اسم أي جامعة سعودية وقتها، وتحدث البعض بأسى عن "العصر الذهبي" الذي عاشته جامعة البترول قبل عقود وولى إلى غير رجعة! اليوم فقد تغير الحال كثيراً. جامعاتنا حاضرة دوماً في كل قوائم التصنيف. وها نحن نحتفل بتكريس كيان جامعي وطني في طليعة المسيرة العلمية. لكن وبالرغم من ذلك كله، فإن عين المواطن تأبى أن تنظر بعين الرضا لمؤسسات تعليمنا العالي.. فلماذا يا ترى؟

لنعُد لتقرير براءات الاختراع سالف الذكر. بحسب الأرقام الواردة به، فإن شركة سابك تحتل المركز الأول سعودياً في عدد براءات الاختراع.. تليها شركة أرامكو. العملاقان البتروليان لوحدهما يمتلكان 80% من مجمل براءات الاختراع السعودية المسجلة بأميركا. وهذه نسبة عظيمة ولها دلالاتها. لنتذكر أن (سابك) و (أرامكو) ليستا جامعتين. هل يعني هذا أن جامعاتنا قد "فشلت" في مهمتها وتفوقت عليها محض "شركات"؟ هذه هي الإشكالية التي يجب أن نوضحها والتي يتمحور حولها هذا المقال.

إن براءة الاختراع ليست لها قيمة حقيقية عائدة على المجتمع لو لم تتحول إلى "مُنتج". والإنتاج ليس وظيفة الجامعات. الإنتاج هو هدف الآلة الاقتصادية. صحيح أن المؤسسة الاقتصادية تبحث أخيراً عن الربح.. لكن لنتذكر أن هناك اقتصادات صناعية إنتاجية، واقتصادات ريعية فقاعية.

حين تتصدر سابك وأرامكو لائحة براءات اختراعنا، وحين تكتسح جامعة البترول بقية شقيقاتها في هذا الصدد، فإن هذه تمثل الحالة الطبيعية. لأن اقتصاد المملكة اقتصاد بترولي أولاً وأخيراً. والمنتج الذي يسعنا أن ننافس فيه ونقتله بحثاً وتطويراً هو هذا المنتج البترولي وما يدور في فلكه. أرامكو وسابك تشتغلان في النفط ومشتقاته. وجامعة الملك فهد تصول وتجول في الأفنية الخلفية لهاتين الشركتين وسواهما. هل يعني هذا أن بقية جامعاتنا وشركاتنا قد كتب عليها الشقاء والحرمان من الاختراع؟ بالطبع لا. لأننا في الواقع لم نحقق فتحاً عالمياً بعد.

بحسب التقرير نفسه، فإن عدد براءات الاختراع المنسوبة للمملكة العربية السعودية بأسرها خلال العام المنصرم بلغ 214 براءة.. بالتمام والكمال. دولة الإمارات حلت في المرتبة العربية الثانية بـ 30 براءة. لنقارن ذلك مع إحصائيات الشركات الأميركية الصادرة في بداية 2010: شركة IBM سجلت في 2009 وحده - وبعون الله - 4914 براءة اختراع، تلتها شركة سامسونج بـ 3611 براءة ثم مايكروسوفت بـ 2906 براءات. أي إننا بالمملكة لو سرنا على نفس الرتم فسنحتاج 23 سنة كي نعادل ما حققته IBM في سنة واحدة! هل نتحول الآن من الفرحة إلى اليأس؟ كلا. هذه الأرقام هي مجرد مؤشر على حاجتنا لنهضات اقتصادية كبرى تعزز من دور البحث والتطوير في الجامعات وقبل ذلك في الشركات ذات "المنتج" الحقيقي. هذه الأرقام هي دليل على الغياب شبه التام للقطاع الخاص في عجلة التنمية والتصنيع. ليس لدينا صناعات حقيقية بالسعودية خارج نطاق النفط. ما الذي تنتجه IBM؟ ماذا عن سامسونج؟ وكانون وتوشيبا و HP وسواها من الكيانات الإنتاجية التي تتحفنا بـ "آلاف" براءات الاختراع كل سنة؟

تكلمت في الأسبوع الماضي عن قيمة الفن الجميل الحضارية. وعاتبني بعض القراء – كما توقعت - على الخوض في مسألة "ثانوية" كهذه. ذكر البعض أننا أمة متخلفة علمياً ونحتاج لأن نبتكر ونهندس. جامعة البترول و سابك و أرامكو دليل على وجود مبادرة حقيقية في هذا المجال. لكن وكما ذكرت قبلاً بخصوص الفن التشكيلي وبخصوص الرياضة، فإن الحضارة هي منتج تراكمي تفاعلي بين كل مسارات الإنجاز. لن نخترع ونبتكر بدون مظلة إبداعية تعليمية، وبراءة الاختراع ستظل شهادة ورقية ما لم تتلقفها ماكينة التصنيع والإنتاج، وهذه لن تكون بدون رؤية اقتصادية تكرس مصلحة الوطن بعيدة المدى فوق مصلحة حمَلَة الأسهم الآنية. نحتاج لأن ننعتق من قبضة النفط ونستكشف آفاق الإنتاج الأخرى.. عندها ستحلّق كل الجامعات والعقول في سماء الاختراع.