كم سيكون طلاب المرحلة الثانوية في مدارسنا محظوظين العام القادم، وهم موعودون بدراسة كتاب «حياة في الإدارة» للدكتور الراحل غازي القصيبي ـ رحمه الله ـ الدبلوماسي المثقف، الذي تولى أربع حقائب وزارية مهمة «الصناعة، والعمل، والمياه والكهرباء، والصحة»، وشارك في التدريس الجامعي، وتولى إدارة شركات ومواقع وظيفية كبرى، وكان سفيرا لبلاده في البحرين وبريطانيا.
إن كتاب الراحل «حياة في الإدارة» لا يساورني شك أن كثيرين قد قرؤوه وعاشوا مع أحداثه، وأنا أحمدها لوزير التعليم الدكتور أحمد العيسى حين قرر تدريس هذا الكتاب لطلبة الثانوية؛ الذي كُتب بسبكة أدبية رائعة، وبلغة روائية جميلة لا تمل، ضمّنه مؤلفه فصولا من حياته الطويلة، والمليئة بالأحداث الملونة، والتجارب الشيّقة، ولا غرابة في ذلك، فالرجل مثقف وأديب وشاعر وروائي، إضافة إلى كونه رجل دولة ودبلوماسيا من الطراز الأول، تولى مسؤوليات كبيرة داخل الدولة وخارجها، فكان جديرا بكل المهام الوطنية التي شغلها.
«حياة في الإدارة» كتاب من الحجم المتوسط، تضمن مهارات إدارية كانت خلاصة تجربة القصيبي في كل المواقع التي شغلها وعمل فيها، فكان بمثابة عصارة خبرة وتجربة حية جدير بأن يقرأه طلابنا، ويدرسوه، ويخرجوا منه بتجربة رجل معاصر، كان ملء السمع والبصر، فالكتاب بلا شك واحد من أهم الكتب التي تضمنت المهارات الإدارية في عالمنا العربي، ولعله من الكتب التي نالت شهرة فائقة، بدليل أنه كُتبت عنه عشرات المقالات والدراسات، وبحسب علمي عن الكتاب، أن عدد طبعاته فاقت الخمس عشرة طبعة.
لقد نجح ـ رحمه الله ـ في أن يضع القارئ مع فصول من حياته في كتابه حياة في الإدارة، حينما دون فصوله بشكل متسلسل، بدءا من طفولته المبكرة، ثم سنوات دراسته، مضّمنا كل مرحلة من مراحل حياته بعض مشاهداته الإدارية، ومسلطا الضوء على سمات الإداري الناجح، ولم يفته أن يأتي على شيء من تاريخ الوطن، وأن يذكر بعض القصص والحكايات التي جعلته يستقي منها التجربة التي صنعت منه رجلا مكنوزا بالخبرات الإدارية، التي أهلته إلى أن يكون أحد رجالات الوطن البارزين، وأحد المساهمين في صناعة نهضته الحديثة، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه خير الجزاء عّما قدم لوطنه حيا وميتا.
أحسنت وزارة التعليم حين قررت تدريس الكتاب، ليستفيد طلاب المرحلة الثانوية من المهارات الإدارية، التي لا أتخيل موظفا تولى منصبا إداريا؛ ولم يطّلع عليه، أو لم يحاول أن يستفيد من تجربة الرجل، أو أن يطبق الممارسات الإدارية الصحيحة داخل منظومته، أيا كانت تلك المنظمة العملية التي يعمل فيها، ودعوني أتوقف مع بعض المهارات الإدارية التي أشار إليها بشكل خاطف وسريع، فكان يدعو إلى أن يكون الإداري غير متردد في أخذ قراراته الإدارية، وأن يكون منظّما قبل أن يبدأ التخطيط، وأن يوظّف الإعلام عندما يكون لديه من الأعمال والمنجزات ما يمكن أن يُعلن، ليزيد من فعالية حضوره الإداري، ويطلع الآخرين على إنجازاته، وفي كتابه دعا إلى احترام الوقت، وذكر حول ذلك قصة، حينما تأخر أحد من كان سيعينه في موقع كبير، لكنه أتى بعيد الموعد بساعة، فكان ذلك بمثابة إشارة سريعة في أن يحسم أمر عدم تعيينه، كذلك أشار إلى التحلي بالدقة عند اختيار المساعدين، وشغل المناصب، وإلى التمتع بالصبر الطويل، وكيف يجب أن تدار الاجتماعات، وكيف يستزيد الموظف من المعرفة مع عدم الخجل من الاعتراف بنقاط الضعف، وغير ذلك، مما لي أن أتذكره، وكتبته بشيء من التصرف، وهي حقيقة كنوز عظيمة، ومفاتيح للإدارة الناجحة والإداري الفذ، لا يستغني عنها أي إداري يريد أن يروم النجاح، ويدير إدارته بشكل سلس ومنظم.
وكم هو جميل لي في الختام، وقد أعادني خبر وزارة التعليم بتدريس كتاب القصيبي، إلى استعادة تلك السمفونيات التي عزفها وهو يقف على عتبات عمره، فحينما بلغ بوابة الأربعين قال «وها أنا ذا أمام الأربعين.. يكاد يؤودني حمل السنين / تمر الذكريات رؤى شريط.. تلون بالمباهج والشجون»، وحينما بلغ عتبة الخمسين قال «خمسون تدفعك الرؤيا فتندفع.. رفقا بقلبك كاد القلب ينخلع / خمسون ما بلغ الساري ضحى غده.. ولا الغيوم التي تخفيه تنقشع»، وحينما بلغ الخامسة والستين قال «خمس وستون في أجفان إعصاري.. أما سئمت ارتحالا أيها الساري / أما مللت من الأسفار ما هدأت.. إلا وألقتك في أجفان إعصاري»، وحينما وقف على أعتاب السبعين، تساءل وقد هدّه الألم والتعب والهرم، فقال «ماذا تريد من السبعين يا رجل.. لا أنت أنت ولا أيامك الأول / جاءتك حاسرة الأنياب كالحة.. كأنما هي وجه سلّه الأجل». رحم الله القصيبي.