حظيت زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى المملكة المتحدة الأسبوع الماضي بتغطية واسعة محلياً ودولياً، نظراً للثقل السياسي لكلا البلدين، ولتاريخ كل منهما العريق، وعلاقتهما المشتركة منذ عقود طوال. وهي زيارة تكتسب أهمية كبرى لدى الجانبين رغم اختلاف ظروفهما الحالية وتشابهها في الوقت نفسه. فالمملكة تمر بسلسلة من التغييرات الداخلية المهمة، وتعمل على إعادة هيكلة اقتصادها، وتنويع مصادر دخلها، وجلب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، والارتقاء بمستوى مهارات شعبها وطموحاته العلمية والعملية. وبريطانيا تمر بمرحلة تاريخية حرجة عشية الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتحاول تعزيز شراكاتها الدولية كدولة منفردة بعد أن ظلت جزءاً من الاتحاد منذ عام 1973 أي منذ خمسة وأربعين سنة! السعودية قوية بمقدساتها وبثقلها العربي والإسلامي، وموقعها الجغرافي، واستقرارها السياسي، وشعبها الشاب، وطبعاً بمواردها الطبيعية واقتصادها. أما بريطانيا فمتميزة في التجارة والاقتصاد والصناعة والتعليم والثقافة والفنون والسياحة والعسكرية، كما أن الدولة التي كانت ذات يوم امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، لا زالت تتمتع بوزن دولي وثقل سياسي كبير كذلك. وعليه فإن لكل من الجانبين ما يقدمه للآخر، وأفضل العلاقات في عالم السياسة هو ما بني على المصالح المشتركة والأهداف المتقاطعة.

في نهاية الزيارة المهمة أعلن الجانبان في بيان مشترك عن شراكة طويلة الأجل لدعم تحقيق رؤية المملكة 2030 تصل مجموع فرصها إلى 100 مليار دولار على مدى عشر سنوات. وهي أخبار جيدة لكلا الشعبين، لناحية تبادل الخبرات والمعارف وخلق فرص العمل ودعم التنمية والاقتصاد في المملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة.

على صعيد شخصي، تابعت أخبار هذه الزيارة باهتمام كبير بسبب تخصصي في تقنيات التعليم وكوني أستاذة جامعية في كلية الحاسبات، وبالتالي كل خبر داخلي أو خارجي له علاقة بالتعليم أو التدريب أو التقنية يلفت انتباهي. والاتفاقيات ذات العلاقة التي تم توقيعها مع بريطانيا ليست بدعاً في ذلك، ولها أهمية خاصة في مجالي التعليم والتدريب، وذلك لتميز التعليم البريطاني سواء المدرسي (ولذلك تعتمده كثير من المدارس العالمية في المملكة) أو الجامعي، وعدد المبتعثين والدارسين في بريطانيا كان ولا يزال كبيراً.

ومن الاتفاقيات التي لفتت نظري والتي تهدف بحسب الأستاذ بدر العساكر (مدير المكتب الخاص بولي العهد) «للارتقاء بمكانة المملكة في مجالات البرمجة والتعليم التقني المعتمد على التجربة»، تلك التي تم توقيعها بين مؤسسة مسك الخيرية السعودية ومؤسسة GA (General Assembly) وهي مؤسسة بريطانية رائدة في التعليم والتطوير والتدريب، وسيكون من ثمارها تأهيل جيل سعودي مبرمج على نحو ما نراه حتى في دول نامية كالهند.

فالاقتصاد المعرفي وتوطين التقنية كان من أولويات تلك الزيارة، وخاصة في المجالات الحديثة، ولذلك كان للوفد السعودي لقاءات مع المراكز التقنية المتخصصة والمهتمة بالذكاء الصناعي والابتكار مثل (Innovation Centre Big)، وكذلك المدينة التقنية (Plexalcity) وهي من أكبر تجمعات الابتكار في أوروبا، وأيضاً مؤسسة (Nesta) العاملة في مجال الابتكار والإبداع، وزيارة المتحف الوطني الشهير في لندن كذلك.

كما كان للوفد اهتمام بزيارة المدارس التي تتبع نهجاً تعليمياً جديداً ومبتكراً مثل مدرسة لندن للتصميم والهندسة (مخصصة للفئة العمرية 14 - 19 سنة) والتي تعتمد على أساليب تعليمية تحفز الفكر الإبداعي مثل استخدام مكعبات البناء الشهيرة (الليغو) في التعليم!

ولا شك أن هذه الزيارات التي كانت بهدف الاطلاع وبحث أوجه التعاون الممكنة ستفتح المزيد للتبادل المعرفي من الأبواب لشعبنا الشاب وقيادته الطموحة. فلا أفضل ولا أنفع من الاستثمار في أهم مجالين للأفراد والدول: الصحة والتعليم، فالشعب الجاهل لا يرفع وطناً والأمة المريضة لا تبني حضارة.

وكنت أتمنى لو كانت هناك أخبار جديدة عن إمكانية فتح فروع للجامعات البريطانية المتميزة في السعودية، على غرار ما هو معمول به في بعض دول الخليج والدول الآسيوية. فجامعة نوتنجهام مثلاً لها فرعان كبيران في ماليزيا والصين. وهي أفكار كانت مطروحة منذ عشر سنوات أو نحوها ولا نعلم لم تم إقفال ذلك الملف! فهناك تزايد محلي في عدد الطلبة السعوديين والأجانب، ويرغبون في خيارات تعليمية متنوعة على صعيد التعليم الجامعي كما بات الحال عليه في التعليم المدرسي داخل المملكة وليس خارجها، لأسباب اجتماعية وأسرية ومادية.

إن وجود جامعات أجنبية تقدم تعليماً راقياً داخل المملكة، مع الالتزام بثوابت البلد الدينية والاجتماعية والسياسية، سيكون له مردود متميز للطلبة وأعضاء هيئة التدريس السعوديين، وسينعكس على جودة التعليم في جامعاتنا المحلية ودفعها للمنافسة على مستوى عالمي، ويرفع آفاق التعاون الدولي في مجالات البحث العلمي التطبيقي، فلعلها خطوة قادمة مرتقبة بإذن الله.

وإن كان للتعليم نصيبه من هذه الزيارة فقد كان للثقافة نصيبها كذلك، ولعلنا نشهد في الفترة المقبلة معارض فنية تابعة للمتاحف وصالات العرض العالمية تجوب مدننا وتمتعنا بالإبداعات الإنسانية المتنوعة.

لسنوات طويلة ظللنا نعتمد على الخبرات الأجنبية وكنا غالباً مستهلكين على هامش الحضارة، وحان الوقت لنصبح مشاركين فعالين في بنائها، وذلك أمر لن يتحقق إلا بالاستثمار في الإنسان، الذي هو حجر الرحى في صناعة المجد، ومن الواضح أن ذلك كان الهدف الأبرز لزيارة الأمير محمد بن سلمان الأخيرة إلى بريطانيا، والتي بتنا ننتظر لمس ثمارها على أرض الوطن بشغف كبير.