هي المرة الأولى في دورات معرض الرياض الدولي للكتاب التي يثور فيها نقاش واسع وكثيف، حول القيمة الفكرية والثقافية للكتب المعروضة: قيمة الامتياز للمحتوى وجديَّته ومقدار ما يضيفه للوعي بحسابات تصف موقفها بـ«الرصانة» و«العقلانية» و«التنوير» في مقابل السُّخف والتفاهة والعبث.

نعم، كان محتوى الكتب ولا يزال موضوع تقويم إيديولوجي وأخلاقي، وكانت التصنيفات تشتغل من هذه الوجهة، في صراع بين التيارات والوجهات رغبة في تحقيق مكاسب الرواج لكل منها، ولكن على صعيد مختلف عما نقصده هنا.

هذه المرة لم ينشب الصراع بين وجهات الليبراليين والمحافظين المختلفة، بل نشب بين جمهور معرض الكتاب من جهة، وبين بعض جمهور المعرض وإدارة المعرض من جهة أخرى.

أما موضوع الصراع فهو سماح المعرض لمؤلف صغير في السن، من نجوم تطبيقات التواصل الاجتماعي، هو «أبو جفين» (كُنيَتُه التي عُرف بها نجْماً) بتوقيع كتابه، وبفسح هذا الكتاب، ووجوده معروضاً في المعرض؛ وذلك بحجة «تفاهة محتواه».

وبدهي أننا إذا ما اتفقنا على «تفاهة» هذا الكتاب و«سطحيته»، فإن علينا ألا نعدّه أول كتاب يدخل المعرض بهذه الصفة، ولا موضع إجماع من القراء على هذه الصفة مادامت مقاييس التفاهة والسطحية مختلفة -كما هي مقاييس الجودة والعمق والأهمية- بحسب اختلاف القراء وتنوع مستوياتهم واهتماماتهم.

محتوى كتاب أبي جفين هو انعكاس لخطابه مع جمهوره، في مواقفه التي يعدُّها ويعدُّها جمهوره ضاحكة، ومنظوماته التي يصفها مع جمهوره بأنها «شعرية»، وأشكال أخرى من التهريج الذي يبدو أنه كان ينال إعجابهم، بالإضافة إلى مجموعة من صوره الشخصية تمتد إلى طفولته.

هذا هو محتوى الكتاب، وهو يعني أنه موجَّه إلى الوسط الذي ترتهن نجومية المؤلف إليه، وترتبط به، وأن هذا الجمهور الذي يصنع الوسط النجومي للمؤلف هو القارئ الضمني الذي يؤسسه المؤلف في الكتاب، وهو جمهور موجود بالفعل، كما هو موجود في الكتاب بالقوة.

هكذا دفعت جماهيرية المؤلف ونجوميته إلى تأليف الكتاب، وأوجدت له دار النشر التي نشرت الكتاب وتولت الدفاع عنه والسخرية من المهاجمين له (عكاظ 15 مارس 2018م). ولم تكن تفاهة الكتاب عند من يهاجمه مقصورة عليه، ولذلك فإن جماهيرية المؤلف ونجوميته قادت -أيضا- إلى الهجوم على كتابه، وستقود إلى الهجوم على أمثاله ممن يمتلكون جمهورا ونجومية دون غيرهم من المؤلفين.

وهنا مربط الفرس، وهنا العقدة في المسألة كلها، فالهجوم على نحو ما نرى، هو على ظاهرة أتاحتها ظروف التواصل الإلكتروني عبر الشبكة، وهي لمعان نجوم من محترفي الظهور الضاحك والمسلِّي في بعض تطبيقات الفيديو، خلقوا حول أنفسهم جمهورا، بالتهريج و«طق الحنك» والتعليقات وتبوُّء دور بطولي لملء الفراغ الذي اقتضاهم.

عنوان كتاب أبي جفين «توصون شيْ ولاش»، وهي اللازمة التي ينهي بها مواقف تعليقه وتهريجه وقفشاته، منذ بدأ -في مظهر طفل- على تطبيق keek، في مطلع عام 2014م (ولد عام 1419هـ/ 1999م). وعلى الغلاف تحت العنوان، صورته تلك التي حفظتها ذاكرة جمهوره كما يحفظ المعجبون صور نجومهم وأسماءهم.

وهذا يعني أنه يستحضر في كتابه، صفته النجومية التي بناها في تطبيقات التواصل، فالكتاب ليس كتاب مؤلف مغمور ولا مؤلف عادي بل كتاب نجم، ونجوميته هذه وظيفة رواج للكتاب ومؤدَّى إلى الكسب التجاري من ورائه.

هكذا تحسب دار النشر علاقتها بالكتاب، وهكذا تحسبها دار التوزيع.

وقد أعلن عن هذه العلاقة صراحةً، مدير الدار التي تولت توزيع الكتاب، وهي إحدى دور النشر والتوزيع العربية المعروفة بنشر مؤلفات أدبية ذات قيمة ممتازة لدى النخبة الأدبية والأكاديمية، فبحسب ما تروي عكاظ، قال: «الدار تتعامل مع سوق الكتاب بلغة البزنس… والجدل حول أبو جفين سيضع كتابه ضمن الأكثر مبيعاً، إذ بدأ الطلب عليه منذ صباح أمس».

من يهاجم أبا جفين وكتابه لا يهاجم محتوى الكتاب، وإن اتخذه ذريعة لهجومه، بل يهاجم ظاهرة النجومية التي يكتسبها البعض في تطبيقات الشبكة؛ لأنها علامة، من وجهة نظره، على بساطة وفراغ ومجانية. أو -بتعبيرات ذات جرعة هجومية أعنف- «تفاهة» و«انحطاط»، لأنها لا تجسِّد -من وجهة نظره كذلك- جدية وعمقا ولا تترامى إلى غايات ذات أهمية معرفية وتوعوية وتنويرية وتربوية وما إليها.

هذا الهجوم منحاز إلى نخبوية فكرية وأدبية، لا تبرأ من الإحساس بأنها أقل رواجاً، تنظر إلى التأليف من حيث هو رافعة للوعي والمعرفة والمهارة، ومرقى للذوق والوجدان، وهو نتاج النضج واستواء الخبرة واتساع التجربة.

إن من لم يَرْق من المؤلفين إلى ذلك الدور - فيما نقرأ في بعض وسوم الهجوم عليهم في تويتر وفي بعض المقالات- «بزران» أي صغار في السن «أعدموا هيبة الكتب» وتأليفهم «سخافة» ويسيئون إلى الذوق العام، ويجنون على العقول، ويضرون بسمعة المعرض، ويجب عدم فسح كتبهم، ومنعها من دخول المعرض… إلخ

وكانت بعض التعليقات، حتى تلك التي لم تكتم استصغارها لتلك المؤلفات، أكثر وفاءً للحرية، حين رأت في مطالبة إدارة المعرض بمنعها «وصاية استبدادية» وقمعاً لـ«حرية التعبير» ورأت في المعرض سوقاً يعكس الاهتمامات الاجتماعية المختلفة، ويتيح رؤية نتائج «تخلينا عن المسؤولية الفكرية».

وهي نتائج يبرأ منها مجتمعنا -عند أحد المهاجمين- فهو ينسبها إلى «قوى مجهولة تعيد صياغة مجتمعنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومن خلال لعبة المتابعين الوهميين لتكريس ثقافة الانحدار الفكري».

وعلى أي حال فلست مسرورا بالمؤلفات التي لا تدفع إلى «الارتقاء» بمعنى أو بآخر، ولكننا لا نستطيع أن نفصل المؤلفات عن المتلقين الذين تروج بينهم، فالكتاب يوجد جيدا أو رديئا لأن متلقيه كذلك، وهو من يستحيل إلى دلالة في خطاب الكتاب نفسه على مجموعة من الخصائص.

إننا نسرف في اللوم على المؤلفين الذين لا يرقون إلى ما نطمح إليه، وعلى دور النشر التجارية التي تجري وراء أرباحها، والأحرى أن ندَّخر اللوم لقطاعات الثقافة والفنون والتعليم التي تعجز عن خلق وعي مستو وناضج ومعقَّم ضد التفاهة والانحطاط وضد الوثوقية وضد الإسراف في الجدية.

لم أكن أعرف أبا جفين قبل معركة الجدل حول كتابه، فبحثت لأعرف عن نشاطه وقدراته، وعثرت على بعض مقاطع الفيديو التي تلقى رواجا، فيما يبدو، عند متابعيه، وشاهدت لقاء معه على الهواء عن موضوع الهجوم على الكتاب، في إحدى القنوات التلفزيونية التي تحرص على اقتناص هذه الفرص لرفع أسهمها عند مشاهديها، بالإضافة إلى بعض المتابعات الصحفية عما أثاره الكتاب.

شاب تبدو عليه ملامح طفولية غضَّة، ولكنه واثق من نفسه من دون غرور، طليق اللسان، حاضر البديهة، لا يبرأ من حس التحدي والقدرة على الجدل، ولا تغيب في غضون براءته ملامح الذكاء والمكر. وإلى ذلك فإن العين لا تخطئ في اكتشاف إحساسه بالنجومية، واختلاجه بقدرة على الضحك والإضحاك.

إنه خامة ثمينة للتألق على المسرح أو في تمثيل أدوار متفردة في الدراما التلفزيونية والسينمائية، لو كان لدينا ازدهار في صناعة الفن، وأساتذة ممتازون في الإخراج. ويخيّل إليّ أن زمناً غير بعيد، سيتيح لأمثال أبي جفين التألق بشكل أدعى إلى الاحترام له على نطاق أوسع.