«1»

كيف لو امتد عمر أبي حيان التوحيدي -وهو الذي اشتغل بالتأليف والوراقة «النشر» معا- إلى اللحظة الزمنية التي يقام فيها الآن معرض الرياض للكتاب؟ فنجده كما هو، يتجول في المعرض مع الجائلين بحماس غريب!. أزعم أنه سيعجب أشد العجب لدرجة الاشمئزاز «ربما» وهو يتذكر اللحظات ذاتها لعالم الكتب والوراقين في أرجاء بغداد وشوارع الرصافة ودكاكين سمرقند، حين كان يسمع مرتادي تلك الفضاءات المهيبة يسألون بشغف حقيقي ووعي خالص عن ترجمة جديدة لكتاب المعلم الأول «فن الشعر» أو عن مصنف لغوي نادر، وكتب ثمينة أخرى، كان يزدهر بها المشهد الثقافي التأليفي في العصر الذهبي العباسي.

ثم وهو يتذكر ذلك الزخم الفاخر من الكتب والموسوعات والمصنفات التي جعلت لتلك البضاعة في ذلك الزمن البهي قيمة وهيبة! تراقان الآن بابتذال رخيص من الكتبة والمؤلفين «الجدد»، ممن سمع من يقول عنهم بأنهم ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي الحديث، الذين اقتحموا المجال الرفيع بأمجاد الوهج الاجتماعي وحده.

ولكنه الآن يحملق في الوجوه الجائلة في أروقة المعرض الجديد، فلا يرى تلك الملامح الرصينة لأهل الكتب، وهو الأكثر دراية بسيمياء أصحاب تلك الصناعة، ولا يسمع تلك الحوارات الثقافية الحقيقية التي اعتاد سماعها في أطيافه الأوائل بين البائعين والمشترين على السواء!

«2»

لماذا نرتهن في معظم الأحيان إلى النمطي والتقليدي والجاهز؟ هل وقوفنا على السواحل يكفينا من دهشة الولوج إلى لجة الأزرق الفاتن؟ متى نتحرك صوب الفضاءات الأكثر صدقا وجدلا وتأثيرا؟

«3»

تنتابني هذه الأسئلة الملحة في غمرة برامج فعالياتنا الثقافية التي تقام بين الحين والآخر بجهود قامات هائلة في المؤسسة الثقافية لدينا، أجزم بصدق نواياهم الوطنية، في إنجاز ما يسمو بـ«ثقافة» و«إعلام» البلاد.

«4»

ثمة مقاربات «ذاتية» يمكن أن تجعل لفعالياتنا الثقافية صوتا مختلفا، يحمل كثيرا من دلالات المثاقفة الخالصة، والمعرفة المنتجة.

«5»

أما تلك المقاربات التي أزعم أنها شروط حاسمة للفعاليات الثقافية لدينا، فيمكن تلخيصها على النحو الآتي: أ/‏ عدم الثبات على مشاركة أسماء مثقفة كانت حاضرة خلال عقدين من الزمن، وقد قدمت في تلك الفترة الزمنية الطويلة كل ما لديها من أدب ومعرفة.

الفعل الأمثل هو اختيار المشاركين بحسب الكفاءة الآنية التي يبرزها أعمال ثقافية متجاوزة، وكتب معرفية جديدة وخالصة.

عالم الثقافة والمعرفة يجب أن يتجرد من نبل المجاملات، حتى ولو كان ذلك على سبيل التكريم، عندما يوكل لهؤلاء الكبار حقا إدارة الجلسات في تلك الفعاليات «على سبيل المثال»!

ب/‏ يجب.. يجب أن تكون أوراق العمل المقدمة مختلفة عن السائد والساكن، تضيف ولا تكرر.. تصعد ولا تظل رهينة لاستواء المكان وجموده.. يجب أن تتحرك المعرفة التي تنطق بها الدراسات والبحوث في اتجاه عمودي، يترقب الشواهد الحديثة في الفضاءات الأكثر سمواً وتجليا، فعندما يطرح مشارك ما، تاريخية الفن المسرحي وسماته الموضوعية والفنية، فهو لم يقدم شيئا ذا بال، يخدم غايات الفعالية الثقافية وأهدافها، وعندما يطرح مشارك آخر «النص الرقمي» في الأدب الحديث من خلال التعريف به، وذكر أبرز المشتغلين عليه، في وسائل الاتصال الجديدة، فهو أيضا لم يقل شيئا في فعالية ثقافية، يمكن أن تكون من غاياتها صياغة التحولات الهائلة في ثقافتنا المحلية، وما يفضي إليه ذلك التحول من تأثيرات معرفية، سوف تمثل نهجا جديدا للمكتبة المحلية... كان يمكن طرح عدة صياغات للموضوع.. أكثر أهمية وإنتاجية ومعرفة!! ج/‏ أزعم أن استضافة أسماء «مهمة» في الأدب العربي والعالمي، ستكون إضافة لفعاليات ثقافية تمتزج فيها الخبرات والمعلومات..

تخيلوا لو تمت استضافة ميلان كونديراوجوستاين غاردر أو هوراكي موراكامي، والباقين من الذين حصلوا على نوبل للآداب، خاصة المتأخرين منهم في الأعوام الأخيرة، ولكم أن تتخيلوا المشهد -عربيا- لو تمت استضافة سعيد يقطين وفيصل دراج ومحمد الأشعري وربيع جابر نماذج! د/‏ غياب أسماء ثقافية محلية «مهمة» عن أغلب الفعاليات يثير الكثير من علامات الاستغراب والدهشة..! «في هذه الأثناء فلا زلت أتحسر مؤمنا بقضاء الله وقدره على انطفاء شعلة أستاذ «هائل» بحجم الدكتور محمد سليمان القويفلي -رحمه الله-، ونحن لم نستفد من مخزونه الثرّ من شواهد الثقافة الجديدة أدبا وسردا ونقدا و.. و....! ولم نعطه المساحات التي يستحقها فوق منصات الفعاليات والأمسيات»!.

«6»

سنشهد خلال الأشهر القادمة مهرجان «سوق عكاظ» بالطائف، وهو يمثل فعالية ثقافية تتكئ على موروثنا القديم..

أزعم أن الرؤية الماضوية لصياغة فعاليات المهرجان لن تضيف شيئا «كذلك» للمنجز الاحتفالي الثقافي في بلادنا! ثمة جدلية يجب أن ندركها، للولوج في ماض يصعد بنا إلى فضاء مقنع ومنتج من تعاطي الثقافة والتعامل معها، وهذه الجدلية تفترض أمرين: «الأول هو أن تبقى معرفة الماضي مفتوحة، تكشف عن أشياء وعلاقات لم تكن واضحة ومعروفة، لأن إعادة النظر الدائم في الماضي هي التي تجعل صورته الثقافية حية باستمرار، وتحوله إلى حضور فاعل.

والثاني هو أنه يجب التمييز بين الزمن التعاقبي المتسلسل، والزمن الإبداعي، فالأول أفقي، لا يملك إلا الاشتغال المتكرر بقضايا الماضي فحسب، أما الزمن الابداعي فدائري وعمودي، يرى اللحظة الماضوية بزمن الحاضر أحيانا، والمستقبل أحيانا أخرى، وتلك هي اللحظة المنشودة التي نحتفل بها بموروثنا من خلال تفاعلات الحداثة والمعاصرة والتجديد». وربما يكون لذلك حديث آخر في الأسابيع القادمة، بإذن الله.