الخيال عالم عميق، الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود، فمن دخله وضاع في دهاليزه أصبح سجينا أسيرا لا يرى الواقع، مما قد يؤدي به إلى الجنون، والخارج منه مولود لأنه يعود إلى الحياة، إلى الواقع وبين يديه فكر أو علم أو شعر أو أدب أو فن. وقد قيل في الزمن الماضي إن الخيال كانت له عرائس تحركه؛ تنزل على الفرد وتهديه الإبداع، كم شاعر أو أديب أو حتى فنان حين سئل من أين جاء بالفكرة أجاب بأنه لا يدري وكأنها جاءت من خارج نفسه، أمسك بالقلم أو بتلك الريشة أو بذاك الإزميل وبدأ برحلة شغف، وما إن انتهى منها حتى وقف متعجبا كيف أنها خرجت وأبصرت النور؟! حتى إننا إن بحثنا في تراثنا وجدنا من يذكر وادي عَبْقَر في شبه الجزيرة العربية، حيث يقال إنه كان يسكنه شعراء الجن، وذكر أيضا أن عباقرة الشعر في الزمن الماضي كان لكلّ منهم جنيّة أو جنّي يلقنه الشعر! بالطبع نحن نعلم أن الإبداع يسكننا، وما علينا إلا إطلاقه، لكن عبر التاريخ لجأ الأقدمون إلى تفسير كل ظاهرة وكل حدث لا يستطيع العقل أن يفسره من خلال القصص والأساطير.
الغريب حقا أنه رغم أن عرائس الخيال التسع كن جميعا من الإناث، تم نسب الأعمال الجميلة والعظيمة التي أسهمن في خلقها إلى الرجال! لم نسمع في الأساطير أن هذه العرائس نزلت على أنثى! وبالتالي يتضح أن الأنثى كان يُستمد منها لكنها لا تُعطى! المهم هنا أن هذه الأساطير تمت ترجمتها فيما بعد، وأعيد إنتاجها في صور مختلفة، لكن روح الأصل ظل باقيا واضحا لمن لديه دراية بالميثولوجيا الإغريقية، ومن هذه القصص التي شدّتني وأحببت أن أشارككم بها اليوم قصة «بيجماليون»، التي قدمها الشاعر الإغريقي «أوفيد» في قصيدة من قصائده.
يحكى أنه في زمن بعيد، وفي جزيرة بعيدة تدعى قبرص، عاش نحات مبدع استطاع بإزميله أن يحول الجماد إلى أعمال فائقة الجمال والروعة، ولكنه كان وحيدا لم يتزوج خوفا واشمئزازا من المرأة التي كان يظن أنه يعرفها؛ حيث إنه كان لا يعرف إلا بنات الليل، ومن خلال ذلك حكم بأن جميع النساء يُحببن المال، يتنقلن من رجل إلى آخر بأجر! وفي يوم فكر في أن ينحت تمثال امرأة تكون فيه جميع الصفات التي يريدها، وبدأ يعمل حيث واصل ليله بنهاره، وشيئا فشيئا بدأت تتضح أمامه ملامح امرأة فائقة الجمال والتفاصيل، وحين انتهى وقف مشدوها أمام روعة ما رأى، وشعر بدبيب مشاعر لم يكن يعرفها من قبل، تنغز كل خلية من كيانه؛ لقد وقع في غرام التمثال الذي أطلق عليه اسم «جلاتيا»، فأخذ يشتري لها الملابس، ويزينها باللؤلؤ، ويحضر لها الورود، وهو يواظب على بث مشاعره وحزنه ووحدته إليها، حتى إنه كان يبكي من شدة حبه لها، وفي يوم خطر له أن يطلب من الآلهة أن تبعث الحياة فيها، فأخذ يتضرّع ويشكو ويقدم القرابين، وفي عيد الحب قدم قربانه في معبد ربة الحب «أفروديت»، فارتفعت النيران المقدسة ثلاث مرات، مشيرة إلى قبول القربان، وحين عاد إلى منزله وجد «جلاتيا» تتحرك أمامه، لقد غدت امرأة من لحم ودم! فرح المسكين بها وتزوجها، لكن «جلاتيا» حينما رأت نفسها في المرآة اغترت بجمالها، وبحثت عن آخر كي يرضي غرورها، استشاط «بيجماليون» غضبا، وطلب من الآلهة أن تعيدها إلى حالتها الأولى، واستجابت الآلهة، حينها حمل فأسه وحطمها، وفي ترجمة أخرى ذُكر أنها لم تخنه، ولكنه سئم تواجدها، ولم يعد يرى الجمال فيها، بل غدت امرأة عادية تطبخ وتكنس، ولكي يبرر أنها لا تستحقه خلق في خياله قصة الخيانة وأصر عليها، رغم أن الآلهة حين طلب منها إعادة «جلاتيا» إلى تمثال، أكدت له أنها بريئة، لكنه لم يصغ، وأصر في طلبه!
بينما حين ننظر إلى مسرحية «بيجماليون» للأديب الإيرلندي جورج برنارد شو، نجد أنه وضع عليها بعض لمساته؛ فغير المكان والزمان وحتى البطل ومهنته، لكنه ظل محافظا على روح القصة، فنجد أن عالم اللغويات لم يتزوج من أليزا بائعة الورد، رغم أنه حولها بناء على تحدّ بينه وبين صديقه إلى سيدة مجتمع من الطراز الأول، تركها في النهاية معلقة، لا تستطيع أن تعود بائعة ورد، ولا تستطيع أن تنتمي إلى الطبقة الراقية! بينما الأديب العربي توفيق الحكيم كان أقرب في مسرحيته من النص الأصلي، الفارق هنا أنه بعد أن أعيدت زوجته إلى تمثال ندم وطلب إعادتها إلى الحياة ثانية، وهنا لم يُستجب له، فحطم التمثال في ثورة غضب ومات ندما.
المغزى من الأسطورة، أنه لا يوجد كمال إلا في الخيال؛ ولكن حين تعبر به إلى الواقع ستجد أنه لا الجمال ولا الفن ولا الفكر ترتقي إلى هذه المرتبة، ومن يتعامل مع أعماله على أنها كاملة فهو واهم، لأنه مع أول تحدّ سوف يصدم! الإلهام لا يأتيك من الخارج، إنه في أعماق ذاتك، إن بحثت عنه وجدته، لكن إياك أن تغتر وتعتقد بأن صنيعك هو النهاية، ولن يأتي غيرك بمثله، فما هو إلا تكملة لبدايات كثيرة دارت في فضاءات الزمان حتى وصلت إليك، وستدور الأيام ويأتي من يتفوق عليك وبمراحل! فاخلع قبعة الغرور، وعد إلى الواقع تسلم! إنها نِعم من الخالق، وبدلا من أن تذوب في عشق صنيعك، وتنتقل منه إلى عشق ذاتك، تقرّب ومجّد الخالق على ما أنعم وما وهب.