في أعقاب الحرب العالمية الثانية 1945 سيطرت نداءات الانفتاح والعولمة عبر شعاراتها الداعية إلى توطيد العلاقات الدولية وانفتاح العالم على بعضه، من خلال تكثيف التواصل بين البشرية وتأسيس منظمات ومؤسسات لها أطرافها المتعددة حول العالم، تهتم بدفع الدول إلى تبني أعراف إنسانية أكثر للخروج من آثار الدمار الذي حل بالعالم، في محاولة لمداواة جراح الحربين العالميتين الأولى 1914 – 1918، والثانية 1939 – 1945، والسعي إلى رفع معدلات الحس الإنساني وتعديل المسار نحو البناء الحضاري والتعايش والتقارب بين الناس، والتأكيد على الاهتمام بالأمن والسلام والاستقرار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، وتعزيز التنمية في الأماكن النائية ومساعدة الفقراء، وغيرها من الأمور الكفيلة بإنجاح مشروع التقارب الإنساني، وكان ذلك على حساب انحسار المد الشعبوي الداخلي للدول، وضمور الإمبريالية (التي تعني الحكم والسيطرة على مساحات جغرافية عبر الجيوش أو الاقتصاد والثقافة) التي صبغت العالم قبل الحربين العالميتين وبعدها بقليل، وهذان المنحيان يمثلان صراعين ميزا العصر الحديث.

اليوم يبدو واضحا أن مشروع الانفتاح والعولمة العالمي يعيش تحت خطر تهديد الشعارات السياسية للدول العظمى في العالم، وأن هذا الخطر سيكون أشد فتكا بالقيم والمساعي الداعية إلى كسر الحدود السياسية بين دول العالم، من خلال اكتساح التبادل المعرفي بين البشر، ففي أميركا مثلا -الأم التي تزعم أنها الراعية للديمقراطية والحريات والتعايش في العالم حاليا- رفع رئيسها دونالد ترمب شعار «أميركا أولا»، وهو الشعار الذي كان أحد أهم محاور حملته الانتخابية، واشتغل عليه بعد توليه مقاليد البيت الأبيض، ليفسح الطريق من جديد إلى ازدهار شعبوية كانت أميركا قد تجنبتها عبر عقود طويلة. ومثله فعل المؤيدون لخروج بريطانيا من عقد دول الاتحاد الأوروبي برفعهم شعار «بريطانيا أولا»، وهو الأمر الذي لم تعهده بريطانيا طوال تاريخها السياسي والشعبي الحديث، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كانت بريطانيا أنموذجا فريدا لتقبل الآخر واحتواء المعارضين، وهذا مؤشر يمكن وصفه بالتراجع في الذهنية السياسية لدى البريطانيين قبل حكومتهم!

ولم تكن فرنسا التي انطلقت منها الأسس الأولى للديمقراطية في العالم بعيدة عن هذا المد السلبي، إذ تنادي الجبهة الوطنية برئاسة ماري لوبين بشعار «فرنسا أولا»، وربما عاد ذلك إلى احتدام السباق إلى مقعد الرئاسة بين الأحزاب وملاحظة ارتفاع معدلات شعبوية الأحزاب اليمينية، وإعلانها في أكثر من مناسبة مناهضة وجود المهاجرين، على الرغم من أن فرنسا في كثير من واجهتها تقوم على المهاجرين، فمنتخبها الوطني لكرة القدم الذي جلب لها كأس العالم 1998 وصف بمنتخب المهاجرين من قبل المناهضين والعنصريين.

في حين رفعت روسيا في هذا المضمار أن «روسيا أولا»، وهي في الأصل لم تكن بعيدة يوما عن هذا الشعار.

هذان الصراعان (الانفتاح والعولمة – الشعبوية والإمبريالية) في الواقع هما أهم سمات العصر الحديث، إذ تعلق أولها بالشعبوية في عدد من دول العالم لتكرس لإمبريالية نتج عنهما انفجار حربين عالميتين أكلتا الأخضر واليابس، بينما أطلق النموذج الثاني مشروعه في الإيمان بأن الانفتاح سيؤدي إلى العولمة، ورأى فيها المسار الصحيح الذي يجب أن تذهب إليه البشرية وما يتعلق بها من شؤون سياسية واقتصادية وعلمية وفكرية وثقافية.

المنحى الأول الذي بدأ يسترد عافيته من جديد على خلفية موجة الإرهاب التي تجتاح العالم مؤخرا، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية العالمية، وهما القشتان اللتان وجد فيهما دافعا كبيرا للإطلالة برأسه من جديد عبر مؤيديه، واستثمار ورقة الإرهاب بجميع مسبباته، خاصة الإرهاب الذي تبنته مجموعات ذات منطلقات عقائدية دينية، كورقة جوكر رابحة ألقى بها في الأوساط الاجتماعية ليختطف مجتمعاته ويعود عبرها في ثوبه القديم الجديد على العالم، أما المنحى الثاني الذي بدأ بفقدان قوته بشكل غريب في ظل الانفجار التكنولوجي الذي أوصل العالم ببعضه معرفيا بشكل أكثر من أي وقت مضى، وقلص المسافات الجغرافية، وهو الأمر الذي كان يفترض أن يكون أهم عوامل ازدهاره عالميا، فقد تراجع تحت وطأة الحروب التي نشبت في مواقع الشرق الوسط تحديدا، وعدد من الصراعات الأيديولوجية الداخلية في أماكن أخرى من العالم.

فهل فشل مشروع الانفتاح- العولمة في استثمار شعاراته الإنسانية؟ وهل سيعود العالم خطوة إلى الخلف؟

الإجابة لا تبدو متاحة بشكل قاطع في الوقت الراهن، حتى وإن ظهرت العلامات الأولى لأن يعيد التاريخ نفسه في ظل التوترات السياسية بين عمالقة دول العالم، وسيكون الإنسان حينها هو الخاسر الأكبر مرة أخرى بالتأكيد.