حين أردنا طباعة كتاب فنسان جيسير عن الإسلاموفوبيا في المجلة العربية قبل 9 سنوات اصطدمنا بملاحظات رقابة المطبوعات التي وجدت في الكتاب هجوما شديدا على الإسلام والمسلمين، ورأت أن تحذف هذه العبارات أو تخفف حتى تفسح للنشر، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يحصل، فالترجمة خيانة كما يقال، وحذف شيء أو تعديله خيانة أخرى، ولذلك طبعنا الكتاب على مسؤوليتنا كاملا كما ترجمه الدكتور محمد الغامدي، والسبب في إقدامنا على ذلك أن الدكتور جيسير باحث في مركز الدراسات الخاص بالعالم العربي والإسلامي، التابع لمركز البحوث العلمية في فرنسا، وإعلامي ومحاضر في معهد العلوم السياسية، وهو ينقل الكتابات العدوانية والاستفزازية ضمن الخطاب الغربي المعادي للإسلام، من خلال متابعة ميدانية وقراءة لخطابات مثقفين ومفكرين وإعلاميين من أطياف مختلفة، وحذف أو تخفيف العبارات القاسية يعد تزييفا وهروبا من مواجهة تيار الإسلاموفوبيا الذي تعاظم ضد المسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر، وخداعا للقارئ.

المشكلة في هذا الخطاب الأوروبي، والفرنسي تحديدا، أنه نقل كافة حمولات العداء ضد الإسلام والمسلمين بشكل بليد إلى السعوديفوبيا، انطلاقا من عدد السعوديين المنفذين للعملية، ثم عملت جهات متعددة بهدوء، وعلى مدى سنوات، على ربط السعودية بالإرهاب، مغطين على موضوع معاناة السعودية نفسها من الإرهاب، وجهودها وتعاونها مع الدول في مكافحته، والمعلومات التي قدمتها لدول الغرب وحالت دون تنفيذ جرائم إرهابية فيها.

وكنا في كل مرة نأتي فيها إلى فرنسا أو نلتقي في السعودية وغيرها بإعلاميين ومفكرين فرنسيين، نلمس عند أعداد منهم موقفا سيئا تجاه السعودية، معلنا أو مواربا، وبالذات في موضوعات أربعة تتكرر بشكل كامل هي: الوهابية، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والديموقراطية، على الرغم من العلاقة السياسية المميزة بين السعودية وفرنسا على مدى العقود الطويلة باستثناء العقد السابق الذي نص عليه الرئيس الفرنسي ماكرون في المؤتمر الصحفي مع ولي العهد في قصر الإليزيه قبل يومين.

في هذه المرة، التقينا عددا من الإعلاميين والمثقفين والسياسيين، وسبق أن التقينا بعضهم في الزيارة السابقة للأمير محمد بن سلمان لفرنسا عندما كان وليا لولي العهد في 2016، وسألتهم عن موقفهم من السعودية حاليا بعد إعلان رؤية 2030 والإصلاحات الكثيرة التي شهدتها في العامين الماضيين، والحضور الطاغي والمبهر للأمير في وسائل الإعلام الغربية، وتصدر السعودية افتتاحيات الصحف ونشرات الأخبار والتقارير بشكل مستمر، بمختلف اتجاهاتها سلبا أو إيجابا، وكان جملة ما دار في هذه النقاشات أن هناك تغييرا كبيرا حصل أو سيحصل في السعودية برؤية أوضح بعيدا عن محاولات الدوحة التي حاولت بشكل دؤوب أن ترسخ بأن السعودية هي مملكة الصمت. ونتيجة لفتح الباب أمام الصحفيين والمفكرين للحضور للسعودية كي يروا بأنفسهم ويكتبوا المقالات والتقارير والكتب، حتى وإن لم تكن بالشكل الصحيح الذي يرضينا، بدأت أصوات كثيرة تظهر وتطرح أمورا لم تكن تطرح بهذا الشكل في السابق، وكانت تعتمد على أسماء محددة لها أجنداتها الخاصة ضد السعودية، وبعضها لسعوديين معروفين بالاسم والتوجهات والتحويلات المصرفية السرية.

المشهد الإعلامي والفكري الفرنسي لم يعد سيئا تجاه السعودية كما كان أيام وقبل كتابة جيسير لكتابه، وإن لم يتحسن بشكل كامل على النحو المنصف الذي يفترض أن يروا عليه السعودية، لا كما نحب نحن أن يرونا عليه، ومع استحسان الكثير لما يحدث في السعودية من حرب على الفساد والإصلاحات، وتمكين المرأة وإعطائها حقوقها التي كفلها لها الإسلام، فهناك من النخب من وقف على الحياد ولم يدل برأي على طريقة التوقف عند بعض فرق الخوارج، غير أن منهم من اتسم توقفه بالحذر والترقب، فهم وإن كانوا يرون أن الرؤية وما أنتجته من إصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية جيدة ومبشرة، لكن بعضهم يخشى كما تعود من كثير من زعماء العالم الذين يقومون بإصلاحات شكلية مؤقتة أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، ليأتي الجواب من الرئيس الفرنسي نفسه وأمام كل وسائل الإعلام الفرنسية والأجنبية بأن العمليات التي تحدث في السعودية ليست تجميلية، وفي الجانب الآخر يرى البعض أن السرعة التي تحدث بها الإصلاحات تثير القلق والخشية من ردود الفعل، اعتمادا على الإيقاع البطيء الذي تعودوا عليه من دول المنطقة، ناسين أن نسبة الشباب الكبيرة في السعودية والرؤية التي ارتكزت على المجتمع الحيوي تجعلان من هذا الجيل يركض ليأخذ مكانه الصحيح الذي يستهدفه ولا يمشي الهوينى، وفي مجتمع أوروبا الذي وصفه نابوكوف في رواية لوليتا بالشيخوخة كان ملفتا للنظر استقبال أصغر رئيس فرنسي عُمُراً لولي عهد السعودية الشاب، لينبههم محمد بن سلمان حين قال أمام عدسات التلفزيون لماكرون بأننا نرى أنفسنا (محمد وماكرون) عواجيز أمام جيل الشباب المتوثب في السعودية.

غير أن الموضوع الذي استأثر بالكثير من الوقت في النقاش هو عن التيار الديني في السعودية وتأثيره والفكر الذي يغذي التطرف، وكنا نوضح لهم كيف أن تيارات من الإسلام السياسي اختطفت بعض الشباب وبعض الأجهزة، وعممت ما تراه على المجتمع ككل حتى تكونت صورة نمطية غير صحيحة عن مصطلح الوهابية والتيارات الدينية في السعودية وتأثيراتها وامتداداتها وعلاقات بعضها بالخارج، وكانوا يظنون أن السعودية تواجه بعض الأفكار والتيارات بالقرار السياسي، وفاجأهم بأن السعودية تعيد إنتاج نفسها في الداخل في جميع المجالات، وفاجأهم أكثر بأنه تعقد في هذه الأيام في جامعة القصيم وفي مدينة بريدة ندوة كبرى عن الصحوة يشارك فيها باحثون وعلماء ومفكرون وطلاب علم، وتطرح فيها على العلن كل الموضوعات على بساط البحث، وتتم مراجعة الفكر الذي أنتجته الصحوة منذ أن بدأ تسييس الفكر السلفي الفطري الذي كان سائدا في السعودية.

مشكلة كثير من النخب الفرنسية أنها إما أن تكون أسيرة انتماءاتها اليمينية المتطرفة واليسارية الاشتراكية، أو أسيرة قناعاتها بالصورة النمطية التي تشكلت على مدى عقود عن السعودية، وبعضها كانت فخاخا نصبت بشكل أو بآخر لمفكرين كبار عن طريق معلومات موجهة من جهات عربية معتمدة -إن أردنا الإنصاف- على شواهد وأحداث وأفكار صادرة من بعض السعوديين أنفسهم، ومن ذلك محاضرة المفكر الفرنسي روجيه غارودي التي طبعت في كتيب صغير عن الإسلام والخطر السعودي، وهناك كثير غيره، لكن الملاحظ أيضا أن تغذية الصورة النمطية عن السعودية لا يقصد بها السعودية تحديدا، وإنما بسبب الكسل المعرفي يتم سحب الإسلاموفوبيا على السعودية فقط، مع أن غالبية المسلمين في الضواحي الفرنسية هم من المغرب العربي، وهناك مسلمون كثر من وسط وشرق آسيا ومن إفريقيا، لكن تتم تغذية هذا الربط لأسباب سياسية وانتخابية.

أمامنا الكثير لنعمله، ليس بهدف إرضاء الآخرين عنا، ولكن لأن هناك ضبابية في الرؤية حينا، وتضليلا أحيانا، وسوء فهم أحيانا أخرى، ومن واجبنا أن نطرح صورتنا الحقيقية وفق الرؤية المرتكزة على مكانتنا وتأثيرنا العالمي، ومن واقع عمقنا العربي والإسلامي، وأهمية موقعنا الجغرافي والإستراتيجي، وتحقيق الرفاه باعتباره قوتنا الاستثمارية التي تحتاج إلى مناخ الفهم المتبادل لا العداء والكره.