لفت نظري في استخدام الدكتور عبدالله الغذامي لوصف «الجَرَب الثقافي» في كلمته الافتتاحية لملتقى «الأدب السعودي الجديد» الذي نظمته الجامعة العربية المفتوحة بالرياض (وكان الدكتور ضيف شرف الملتقى)، الصفة الاستعارية لوصف الثقافة بالجرب، التي تعيد في أذهاننا بناء الوعي بالثقافة وتخييلها حيويا.

وكان وَقْع الاستخدام الاستعاري للجرب في وصف الثقافة ملفتا للانتباه، وقادرا على استثارة المخيلة باتجاه صور متقاطعة ومتداخلة للثقافة بين المرض والصحة، والضعف والقوة، والنظافة والقذارة، والتقدم والتخلف، وإلى آخره، وقادرا -كذلك- على إكساب المعنى الذي يترامى إلى الدلالة عليه عواطف الفزع والإشفاق والقلق التي تحفُّ بالجرب وحضوره في الذاكرة.

هذه الاستعارة التي حدثت في «الجرب الثقافي» ناتجة عن الحديث عن شيء أو عن تصور هو هنا «الثقافة» بواسطة شيء آخر هو مرض «الجرب»؛ وبذلك باتت الثقافة من حيث هي مدلول غير فيزيائي كائنا حيويا عن طريق التشبيه، يُشْبِه جسد الإنسان وجسد الحيوان في إمكانية أن يصاب بالجرب، وأن يُعدي به، وأن يشفى منه.

ولا يخفى أن استخدام الاستعارة في بناء تصوراتنا والتعبير عنها ليس جديدا؛ فالاستعارة لدى علماء اللسانيات الإدراكية، طبيعية ودائمة الحضور في فكرنا، لدرجة أننا نحسب تعبيراتنا الاستعارية بدهيات، ونحسبها أوصافا مباشرة «حقيقية» للأشياء والتصورات. وعبارات من قبيل: وجه البيت، وذراع الكرسي، وذروة الشرف، وصراع الثقافات، ورفيف الحب… وما إليها من استعارات -لم نعد نلتفت إلى حدثها الدلالي بوصفها استعارات- أمثلة على ذلك.

لكن الجديد هو في ابتكار الاستعارات، والخروج بالتصورات النمطية عن مجراها الراكد والجامد، باتجاه ما يحرك هذه التصورات، ويُرْعِش فيها حسا جديدا للتصور والفهم والشعور. وهذا هو ما يلفتنا إلى أن كثيرا مما في أذهاننا من تصورات قابل للتعديل والنفي والتطوير... وخلافه، إذا ما علمنا أنه نتيجة نشاط لغوي، أعني فعل تسمية ووصف، وليس علاقة حَرْفية مباشرة بالمسميات لا فكاك منها.

أحد الوجوه التي يتجدد بها وعينا للتجربة والمعاني والحياة، هو الإبداع الفني والأدبي. فإذا أخذنا الشعر مثالا على ذلك فإن «الشاعر يشعر بما لا يشعر به غيره» فيما تداول -في وصفه- غير واحد من علماء اللغة والبلاغة في تراثنا. والترجمة العملية لمعنى هذه العبارة تظهر في علاقة الشاعر باللغة، حين يعيد تسمية الأشياء والمعاني ووصفها وتخييلها. وهذا هو مكمن العبقرية التي جعل أرسطو الاستعارة علامة عليها، وجعلها ملازمة للشعر الذي يحظى بالخلود. والاستعارة عبقرية لديه لأنها اجتراح للممكن ومفارقة للعادي والنمطي والمكرور، وإلا فإن الاستعارة لا تفارق كلام الناس حتى في لغتهم النفعية والعادية.

أما الوجه الآخر الذي يتجدد به إدراكنا للأشياء والمعاني والعالم والحياة، فهو التفكير العلمي المعرفي. ذلك أن إنتاج معرفة جديدة هو إنتاج للغة جديدة، أي لمصطلحات ومفاهيم لم يكن مضمونها الدلالي الجديد معروفا لنا من قبل، وأحيانا كثيرة لم يكن بناؤها اللفظي كذلك معروفا من قبل، مثل «الثقب الأسود» في الفيزياء الفلكية، أو اللاوعي في علم النفس، وإلى آخره.

ولا تخرج عن ذلك -مثلا- المصطلحات التي يصف بها علم النحو أجزاء الكلام، وفي الحكاية التي يوردها أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» دلالة واضحة على ذلك، إذ يقول: «وقف أعرابيٌّ على مجلس الأخفش فسمع كلام أهله في النحو وما يدخل معه، فحار وعجب، وأطرق ووسوس، فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب؟ قال: أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا».

فالمصطلحات على هذا النحو لغة استعارية، تصف موضوعا بواسطة موضوع آخر، وتَحْمِلُنا على تمثُّل واقعة إدراكية جديدة بتسميتها تسمية تنتقل فيها الألفاظ من مجال إلى آخر.

ونعرف طبعا أن للدكتور الغذامي قائمة مصطلحاته، في شأن «النقد الثقافي» التي تجمعُ إلى قصديتها إنتاج معرفة بالثقافة، إنتاجَ قيمة نحو تلك الجوانب من الثقافة التي تُعرِّف بها، أي معرفة مقوِّمة للثقافة، أو معرفة نقدية لها.

وهي مصطلحات تندرج في معنى «النقد» بمدلوله الانتقادي، الذي يميز جانبا حسنا عن آخر سيئ، ويكشف عما يبدو قصورا أو سببا للقصور. ويبدو بارزا في النظام الاستعاري لهذه المصطلحات، الصفة الحيوية لكينونة الثقافة، إذ تغدو الثقافة كائناً حيّا يمارس المكر والمخاتلة والتضليل ويتسلط ويَمْرَض ويقبُح ويَعْمَى… إلى آخره.

ويكفي أن نتذكر من ذلك، التسميات التي كان الغذامي سببا في رواجها وفي تأسيس دلالتها النقدية عربيا، مثل: «القبحيات الثقافية» التي تترافق مع الجماليات وتختبئ فيها، و«العمى الثقافي» حين تمارس الثقافة قيدا على الرؤية وتحديدا لمساحتها وغيابا للنقد، و«التشويه الثقافي» وهو ما تؤدي إليه الثقافة من لا عقلانية وعنف وعجز ونفاق، و«الجرثومة النسقية» في وصف انتقال الأنماط الثقافية السلبية وانتشارها.

وليس من ضرورة تحتِّم أوصاف الثقافة على هذا النحو الذي يستعيرها من أوصاف الكائن الحي ومتعلقاته ومن الإنسان. وألا تكون هذه الأوصاف ضرورية يعني أنها ليست أوصافا طبيعية وحَرْفية؛ فهناك أوصاف للثقافة مستعارة من مجال الحرب، تضفي عليها صفات مادية وآلية، مثل وصفها بالقلعة أو البيت، والحديث عن غزوها وحربها. وهذا مجال للدلالة على الثقافة دلالة تقديسية، تفصل الإنسان عنها، وتستنهضه للدفاع عنها وصيانتها.

لذلك فإن الاستعارات التي تُكسِب الثقافة معاني حيوية، تحيل على الموقف النقدي تجاه الثقافة، فلا نقد إلا للإنسان، ولا دلالة في الثقافة على الإنسان حين تكون جامدة وحسب. إن حيوية الثقافة تسوِّغ نقدها الذي يغدو نقدا للإنسان فيها رغبة في تطوير وعيه وتصحيحه، وفَتْحه على آخريَّة -هي الممارسة النقدية وهي المعارض والمختلف- تمكِّنه من أن يرى خارج ذاته أي خارج ثقافته.

وبوسعنا -ما دام الأمر كذلك- أن نجد أوصاف الثقافة التي تستعير لها كينونة حية، في ممارسات نقدية أخرى موجَّهة إلى الثقافة أو الفكر. نذكر منها على سبيل المثال هنا، أوصافا شائعة لدى مالك بن نبي، من قبيل: «الطاقة الحيوية للأفكار» و«صراع الفكرة-الوثن» و«الأفكار الميتة والأفكار المميتة» و«انتقام الأفكار المخذولة».

كانت كلمة الدكتور الغذامي شديدة الحس تجاه الحيوية؛ الحيوية التي يجسدها موضوع الملتقى، والتي يجسدها الشباب المنظمون له والشباب الحاضرون الذين غصت بهم القاعة، ذكورا وإناثا، قال في ختامها:

«الشباب الذين هم مستقبلنا وهم الذين يصنعون أيامنا، ولا ننسى أننا في رؤية 20 ـ 30 هذا الرهان الذي جعل واحدا مثلي تجاوز السبعين لأول مرة أشعر بحياتي: أني أستطيع أحلُم». وهنا فاضت دمعته، فصفقت القاعة إجلالا له وانفعالا بقوله، وترقرقت عبرتي ومعي آخرون وهو يواصل حديثه المتهدج بالبكاء: «أنا عشت أحلُم مثل جيلي، ولا نرى أملا... لا نرى بارقة أمل»! وعلا التصفيق طويلا من جديد.