عبدالكريم آل أحمد



خلال قراءة مذكرات الوالي العثماني سليمان شفيق باشا متصرف عسير بين عامي (1326 ـ 1330هـ)، شدني واستوقفني قوله «لا يخامرني أدنى شك في أن حضارة عسير أقدم جدا من حضارة اليمن، ولكنها توارت في ظلمة التاريخ..». وبصرف النظر عن مدى صحة هذا الرأي من عدمه، إلا أنه يحفزنا إلى النظر بتمعن في تاريخ عسير، ويدفعنا إلى ترتيب أولويات تناول ماضيها القديم، والذي ما زال بعضه خاما، ويحتاج مزيدا من البحث والاستقصاء. وكما لا يخفى على أحد تراث عسير الباهر، هنالك آثار مدهشة تواري تاريخا سحيقا يُثري المكتبة العربية والعالمية، وأنا على يقين جازم أن جبال عسير ووديانها وشعابها وكافة أغوارها ما تزال تخبئ كثيراً من الآثار التي لم تكتشف بعد، وهي بحاجة لأعمال مسح ميدانية شاملة، ينبغي أن تجرى موسميا وبشكل منظم ودوري، تقوم بها فرق علمية متخصصة ومرخص لها؛ حتى تسفر أكثر عن بيان القيمة التاريخية لعسير وللوطن.

 دوّن سليمان باشا في مذكراته بعض الظواهر الأثرية التي وقف عليها خلال جولاته في عسير، وبينما أقلّب تلك الصفحات وقعت عيني على وصفه لبلدة جرش الأثرية، حيث قال عنها «في 20 أغسطس سنة 1329هـ، ذهبت إلى النقطة التي يتصل فيها وادي بيشة ووادي عُنقه في الشمال، وهناك أطلال بلد قديم زرتها فعلمت منها أن البلد كان مبنياً بالآجر على خلاف عادة الأهالي الآن، فإن البناء الحاضر ليس فيه آجر ولا يصنعونه قط. وفي الشمال الشرقي من هذه الأطلال على مسافة ألف متر وجدت أكمة بركانية اسمها (حمومة) ارتفاعها مئة وعشرون متراً. وفي طول الرحلة كنت أرسم خرائط الأماكن التي أمر بها..».

 على حد علمي فإن سليمان باشا هو أول من كتب عن «جُرش» في العصر الحديث، فالذي وصل إلينا من كتب الرحالة الأجانب ممن زاروا عسير قبل عهد سليمان باشا، لم نجد فيه أي إشارة إلى «جُرش». لكن من يدري؟ ربما تكشف لنا الأيام القادمة وتطالعنا بأحدٍ من الرحالة والمستشرقين الأوروبيين كان قد زار هذا الموقع الأثري وسجل معلوماته قبل سليمان باشا، فقد قال المستشرق الفرنسي «غوستاف لوبون» في كتابه (حضارة العرب): «تقع بلاد عسير الواسعة بين الحجاز واليمن، وكان الأوروبيون يجهلونها حتى أوائل القرن التاسع عشر، وهي ذات قرى مهمة كثيرة..». وهذا يمنحنا أملاً حول إمكانية وجود «جُرش» في دفاتر وكتب رحالة غربيين مجهولين.

 سبق وأن شاركتُ ضمن فريق جامعة الملك خالد مع البعثة السعودية في التنقيب بموقع «جُرش» الأثري وسط محافظة أحد رفيدة. لم تفارق مخيلتي أساسات مبانيه المهيبة، والمبنية بصخور ضخمة من البازلت والجرانيت منحوتة بعناية فائقة، ومتناسقة فيما بينها بدقة متناهية، تضاهي بحجمها أحجار الأهرامات في مصر. أما الرحى الكبير فهو ما يذهلني على الدوام، إذ طالما تردد خبره على مسامعي من كبار السن الذين يسموه رحى «ثمود»، زعما منهم أنه يعود لقوم ثمود! وهذا بالطبع نزر يسير من الأساطير الحائمة حول هذا الرحى العجيب، الذي يحركه بيده رجل عملاق! كما تصوره الحكايات الشعبية. ومن ذلك أيضا أسطورة غريبة يرددها أكثر أهالي المنطقة، وخصوصا ذا الشيبة منهم؛ وهي أن الملكة بلقيس اتخذت من جبل «حمومة» مقرا لها، حينما مرضت وهي في طريقها إلى الحجاز، وكانت تُرسل لها الظباء والغزلان من الساحل عبر طريق أثري قد اندثرت اليوم معظم معالمه، يسمى «درب الكافر» أو «محش الصيد»، كان يمتد من الساحل غربا، ثم يصعد جبال السراة مرورا بـ«القرعاء»، لينتهي عند جبل «حمومة»، وكانت تطلق كلاب السلق لتجري وراء الظباء والغزلان حتى تصل إلى مقر إقامة الملكة بلقيس بجبل «حمومة». ومن الخرافات حول هذا الجبل، أنه مسكون بعفاريت تحمي كنزا مدفونا في ذروته. وغير هذا عن «جُرش» وجبل «حمومة» كثير، يقصّه الناس قديما في السمر للمتعة والإثارة.

 والعيان يغني عن الخبر، ويُخمد نار الفضول في النفس، فبالملعقة والفرشاة نقبت عن الآثار في «جُرش»، أبحث في التراب عن خفايا البلدة البائدة، فيثار حولي الغبار محفوفا بغابر التاريخ. أثناء العمل في الحفرية خامرني شعور مُشجع، بأني لست ضيفا كغيري على هذه البقعة، ذلك بحكم انتمائي لمحيطها الجهوي والقبلي، وأؤكد أن هذا الشعور لم يخالطه شيء من العنصرية التي أمقتها. وبالرغم من تواضع المشاركة، إلا أنها كانت تجربة رائعة وفريدة، ووسام شرف أحمله على صدري كل حين. موقع «جُرش» الأثري يستحق أن يُسجل في قائمة «اليونسكو» للتراث العالمي، ونتمنى أن يكون متاحا للزيارة قريبا، كي يعي الجميع أن هويتنا التراثية في عسير ليست مجرد «طفَشَة» و«مِضمَد».