نتحدث هنا عن سجن الوعي والعقل، لا عن سجن الجسد، وإن كان بينهما علاقة من بعض الوجوه في شكل السجن أو في مؤداه ونتيجته. وإذا كان سجن الوعي والعقل مفعولا ثقافيا فلا بد أن تتعدد سجون الثقافة وتتنوع: سجون اللغة والماضي والتقاليد والأيديولوجيا والسلطة والأنانية والظرف الاجتماعي أو الطبيعي، وسجون ثقافية تصف حدثاً في جهة وعي الفرد، وأخرى في جهة وعي المجتمع أو في جهة وعي البشرية كلها.

ومن بين هذه السجون ما يكون مفعوله على الذات من ذاتها. ولا يمكن أن نتصور سجن الذات لذاتها، إلا بقسمة هذه الذات إلى ذات ساجنة وذات مسجونة، وذلك في اللحظة التي تستطيع فيها الذات أن ترى ذاتها، بعين المعارض والمختلف والناقد. أي تكون في ذاتها مشتملة على «آخرية ذاتية» وليست مغايرة، تفتح وعيها للنور والحرية، وتنعتق بها من سجنها الذاتي،

أو تكشف لها عنه.

هذه الآخرية الذاتية، التي نتعرف بواسطتها على سجن الذات في ذاتها، أي ما يحجزها من داخلها عن الحرية والتطور والحركة في الزمن، تختلف عن آخرية غيرية تصنع، فيما تصنع، سجن الذات، وهي ما نقصده في عنوان مقالنا هنا «سجن الآخر»، أي ما يُحدِثه الآخر من سجن للذات، يعوق حرية وعيها وإدراكها، ويعطل حركتها وتطورها الذهني والتاريخي.

يمكن أن نتصور الآخر سجنا للذات، وذلك -ببساطة- لأنه يحاصر طموحها، ويحد من حريتها، ويتسلط عليها، ويتربص بها، وينتقصها، ويَحُول دون تحقق ذاتها، وبروز سلطتها… وإلى آخره. وهذا هو الوجود العيني المباشر للآخر، سواء في تجلياته بوصفه عدواً مُعلناً عن عداوته، أو في تجلياته بوصفه مغايرا فقط للذات.

لكن الأهم هو ذلك السجن الذي يصنعه الآخر للذات من دون وعيها المباشر به، وذلك حين تغدو رؤيتها لذاتها هي ناتج رؤية الآخر لها، كما هي رؤية الذات العربية الإسلامية إلى ذاتها، بوصفها «الشرق» الذي بناه الغرب لها، ضمن ثقافة «الاستشراق» على نحو ما كشف عنها إدورد سعيد، وكما هي «ثقافة التابع» التي تجلوها الدراسات المنبثقة عن الوجهات النظرية في «ما بعد الاستعمار»، والرؤية الذكورية للمرأة، كما تصفها الوجهات النسوية.

وليست الرؤية التي يبنيها الآخر للذات، هي وحدها ما يُنتج سجن الذات من قِبَل الآخر، إذ يضاف إلى ذلك موقف الذات من ذاتها الذي يتشكل في ضوء الشعور بموقف الآخر منها، والحسبان له من زاوية دون غيرها. وهنا يحضر ما يمكن وصفه بـ«موقف الرد» حين تتحول رؤية الذات لذاتها إلى رد فعل مقاوِم للآخر، محاصَر باتهاماته لها، ومساءلته إياها، وثَلْبه لها، وتجريمها، واستصغارها، وعدم فهمها.

أما شَكْل هذا السجن وماهيته، فلا يخرج عن مواقف الذات الثلاثية تجاه الآخر؛ وأولها، شعورها بالتعالي عليه، وفخرها الذي ينعكس في رفضها النقد لذاتها ولتاريخها، ونسبة تفوق الآخر إليها، وبراءتها مما يدني منزلتها بإزائه، ونفيها التساوي معه. والثاني، شعورها بالخزي والدونية الذي يستحيل إلى نوع من الازدراء للذات وتضخيم عيوبها، ونفي كل شعور بالفخر تجاهها، واستصغار قدرها، في مقابل العبودية للآخر، وتبرئته من العيوب. والثالث، موقف اللامبالاة بالآخر الذي يلزم عنه اللامبالاة بالذات نفسها.

وهذه المواقف الثلاثة في حديَّتها وتطرفها، هي أشكال السجن الذي تتورط فيه الذات، وتَظهر في سياقات خطابها، التي تتصارع فيها الذات مع ذاتها، مُعوِّقةً قدرتها على مَوْضَعة الآخر، بقدر موضعة الذات، للممارسة النقدية التي تُحرِّر الذات من أسر الآخر لها في حدود ما يفرضه عليها من علاقة مع ذاتها ومعه.

لا توجد الذات، ذات الفرد، وذات الجماعة الثقافية الاجتماعية، منفردة، بل مع آخرين تتعرف على نفسها بالاختلاف عنهم كما يتعرفون من وجهتها بالاختلاف عنها. والمشكلة -عندئذ- في ضوء المواقف السجينة في أشكال العلاقات الثلاث مع الآخر، هي من لحظة تمركز الذات على ذاتها، أو تمركزها على الآخر، حيث التعالي أو التصاغر هنا أو هناك، وتحوُّل المسافة بين الذات والآخر إلى مسافة تفاضل وتراتب وأوَّلية من زاوية الذات أو من زاوية الآخر في الموقفين الأولَيْن، أو فقدان الشعور بالآخر والشعور بالذات معا في الموقف الثالث.

وهي نتيجة حتمية لاختصار وجود الذات -كما وجود الآخر- في العلاقة الثنائية، علاقة التقابل والاستقطاب والضدية، بين الذات والآخر، التي ينشأ في غضونها ومن جرائها «جحيم الآخر». ولا حاجة هنا إلى تحديد هوية الآخر في هذه العلاقة الثنائية، كما لا حاجة إلى تحديد هوية الذات، وذلك لأن هوية الذات والآخر تختلفان بحسابات مختلفة: فردية ومجتمعية ووطنية وقومية ودينية ومذهبية وإثنية… وإلى آخره، ويتحدد الآخر بتحدد الذات المقصودة في سياق معين، كما تتحدد الذات بتحدد الآخر.

وعلى رغم ذلك فإن تداول العلاقة الثنائية: الذات/‏ الآخر، في الأدبيات العربية الإسلامية الحديثة والمعاصرة، يذهب غالبا بهوية الآخر إلى الدلالة على الغرب في لحظته الحديثة، بسبب ما تفرضه أسئلة التقدم والنهضة والحداثة الصادرة من الغرب تحديداً (وهي أسئلة ملحة على العالم كله وشديدة التحدي) من أسئلة الهوية والتقليد ولوازمها التي تلح من جهتها على الدلالة على «الذات» وتُخيِّلها، لدى بعض الوجهات، جوهرا مستقلا بذاتيته.

وليس بمستطاع أحد أن ينكر آخرية الغرب للذات العربية الإسلامية أو ينفيها، ولا أن ينكر الذاتية العربية الإسلامية أو ينفيها، لكن أحدا لن يستطيع كذلك، إلا على سبيل التوهم، أن يتصور الغرب كتلة واحدة متجانسة في ضديتها وآخريتها تلك، ولا أنه جوهر مستقل في قبالة الذات، فالاختلاف داخله يؤهل للقول إنه ليس مستقلا عن الذات، بل يتضمنها في أكثر من وجه، وهو ليس جوهرا بذاته بقدر ما هو علاقة، سواء في احتياجه إلى غيره أو في ما يمسه من التغير وانتفاء الثبات.

والأمر نفسه يمكن تصوره عن الذات، فهي حافلة بالاختلاف والتعدد، وتجانسها الكامل وجوهريتها واستقلالها ضرب من الوهم. وإذا كان الأمر كذلك فإن ما نتصوره من تقاطب الذات/‏ الآخر هنا، ليس طبيعيا أو حقيقيا بقدر ما هو تصوري، إنه فعل ثقافي وأيديولوجي يمكن تفكيكه وإعادة تركيبه، لتنعتق الذات من أوهامها، وتخرج من سجنها الذي يقيِّدها في قبالة الآخر.