(1)

مما يزيد المشهد التعليمي لدينا سوادا وكآبة، رؤيةُ قادة التعليم في «الوزارة» للأدوات الفاعلة التي ينهض بها التعليم، وأعني «المعلمين» بلا شك!.

فتلك الرؤية تزخر بألوان من الريبة والشك والحذر والانتقاص -عيانا بيانا- على رؤوس الأشهاد، ليسجل هؤلاء القادة فتحا مبينا في تاريخ المؤسسات الحكومية، بتلك الإعلانات الصريحة التي يهاجمون فيها منسوبيها أمام بقية المؤسسات الحكومية الأخرى التي يحظى موظفوها بتقدير وحماية مسؤوليهم في الوزارات المتنوعة، لهم ولحقوقهم معا!

يقول وزير التعليم أحمد العيسى في ذلك السياق التهكمي «إن ثلاثة أو أربعة أشهر من الإجازة الصيفية هي أكثر مما يستحق المعلمون»!

ولا يخفى على المتلقي العادي أن هذا الخطاب بتأكيده على عدم الاستحقاق، يؤكد على كثير من الرفض الوجداني -على الأقل- للمعلمين من قائدهم الوزير، والذي يبدو كذلك أن كمية ذلك الرفض كبيرة في وعي الوزير، للدرجة التي جعلته لا يهتم -وهو يعلنها- بالدقة والمصداقية التي يجب أن تتضمنهما خطابات الوزراء ومن في حكمهم من مسؤولين. فالوزير لم يؤكد في خطابه الفترة الزمنية بالضبط للإجازة الصيفية، بل ويعلن عن رقمين مختلفين بينهما شهر كامل.

كان جديرا بالدكتور العيسى، أن يختار تعبيرا مناسبا أقل حدة وهجوما من خطاب «الاستحقاق غير المبرر»، فكيف وهو يختار ذلك الخطاب وليست لديه معلومات ومرجعيات منهجية علمية وتعليمية يستند إليها في ذلك الحكم الانطباعي الصارم جدا، فلو تمهّل معاليه قليلا لوجد تقارب متوسط معدل الدراسة الفعلية في غالب دول العالم، وكذلك في مدارس الجاليات الأجنبية داخل البلاد نفسها!

ولو استقرأ معالي الوزير المشهد بعموميته استقراءً سريعا منصفا، لوجد أن حكمه بعدم الاستحقاق يخص المعلمين الأجلاء الذين ينهضون بأعظم الأعمال وأشرفها. رسالة الأنبياء، والذين يتحملون من أجلها العناء تلو العناء من المخرجات السلبية -حتى الآن- للمؤسسة التعليمية القيادية، سواء فيما يختص برداءة البيئة المدرسية وضيقها ومحدوديتها، أو فيما يختص بعشوائية الأنظمة التعليمية وتداخلها وجعلها دائما في حكم التجارب المؤقتة، أو فيما يختص بغياب أنظمة حماية منسوبي التعليم من المفاجآت الطارئة للسلوكيات المنحرفة التي من الطبيعي وجودها ضمن الفئة العمرية المستهدفة من الطلاب داخل المدارس!

وفي السياق المفعم بالريبة والرفض والانتقاص الذي يسيطر على الوعي الداخلي لقادة المؤسسة التعليمية الكبرى وقائدهم، يجيء الإعلان الآخر وهو استبعاد المعلمين والمعلمات من القرارات الإدارية الخاصة بتعليق الدراسة، كما هو خطاب الإجازات السابق والذي يؤكد على الارتباط -بحكم العقل والمنطق- بين المعلم والطالب، فليس لأحدهما وجود في ظل غياب الآخر، وليس لأحدهما «عمل» و«وظيفة» في غياب «المراجع» الوحيد من المواطنين في هذه الحالة وهو «الطالب»!

(2)

حقيقة.. لن تصلح منظومة التعليم في بلادنا إلا بصلاح المؤسسة التعليمية الحاضنة لأفكار التعليم وقراراته ومخرجاته،  وبالتالي فإن ربع قرن من المعايشة والممارسة للعملية التعليمية في معظم تجلياتها، لي «خاصة» ولمجاييلي من منسوبي التعليم، كفيلة بأن تؤكد غياب الرؤية الصحيحة للأفكار وخطط العمل، والذي أفضى إلى غياب مرير «للرحى» وسط ضجيج «الجعجعات»، فما يخرج من المؤسسة التعليمية الكبرى ينبثق عن فكر نمطي، يستند دائما إلى قرارات ونماذج نمطية جاهزة تدّعي في كل الأحوال اكتمال الحقيقة، مع أن الفكرة الحية والخصبة التي نحتاجها دائما، لا تزعم أنها انعكاس تام للحقيقة، بقدر ما هي صيغة للتعايش، تجترح معها إمكانات الحياة، اشتغالا على المعطيات «الممكنة»، وتحويلها إلى إنجازات حقيقية، ثم إن الواقع -المدرسة تحديدا- ليس مجرد تطبيق لفكرة نموذجية أو رأي مجرد، فمثل هذا الرأي يختزل الفكر والحياة كلها، ويقوم على نفي الوقائع ذاتها عندما لا تتطابق مع الفكرة/‏ القرار، كما نجده لدى أصحاب المشاريع الوزارية التعليمية الجاهزة، الذين يعجزون عن معالجة الواقع وتحويله، لأن أفكارهم تحتاج إلى واقع آخر كي تنسجم معه، في حين أن الفكرة المثمرة والفعالة هي التي تصنع الواقع.

ليست «الأفكار» و«التصريحات» و«التعاميم» التي نريدها تنبثق من مؤسسات التعليم التشريعية «ماهيات» ثابتة، بقدر ما هي «هويات» متحركة ومنتجة، ننتقل معها من طور إلى طور، وليس بالإلغاء والإحلال والإبدال في كل مرة ومع كل بداية عام دراسي جديد!

كل ما سبق يفسر لنا عشوائية عمل ما يسمى بالإشراف التربوي -مثلا- فيما يختص على الأقل باختيار هذه النخب وطريقة عملها، كما يفسر لنا ضعف المنهج العلمي الذي تستند إليه دعائم تأليف المقررات الدراسية، ولعل أهم ما يتجلى لنا من كل تلك الشواهد تداخل البرامج التعليمية في وقت واحد، والنظر إليها بكونها تجارب تدل على فقد مشرعيها للعمل وفق خطط علمية رصينة «على سبيل المثال: تطوير- المدارس الرائدة- مدارس المقررات- مدارس النظام الفصلي- مدارس التعليم الشامل- التعليم الإلكتروني...وهكذا!»



 (3)

 يقول المصطفى، عليه الصلاة والسلام، «قل خيرا أو اصمت»...... وللنثار بقية من شجون تعليمية مؤرقة.