أطال الإمام الشافعي -رحمه الله- في كتاب الرسالة وكرر في أكثر من موضع: أن المجتهد في أحكام الشريعة يجب أن يكون عالما بالكتاب والسنة، ولغة العرب، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والقياس والعلل، وغير ذلك من العلوم التي لا تكون الفتوى صحيحة إلا إذا كان المجتهد مستكملا لها، وأن من يجتهد دون استكمالها فهو مخطئ وإن وافق الصواب، كحال من ليس من أهل الصرف ويحكم في وزن الدراهم جيدها ورديئها، وصحيحها ومغشوشها، فهو مخطئ في حكمه وإن وافق الصواب.

وتحدث -رحمه الله- وأطال في كيفية فهم كتاب الله تعالى على وفق أفهام العرب، وأن كيفية عمل الصحابة -رضي الله عنهم- بتعاليمه هو التأويل الصحيح له، لأن شأنهم -رضي الله عنهم- جمع آياته وحمل متشابهها على محكمها وتفسير محكماتها بمرادات العرب من كلامها، وتحدث عن فهم السنة، وبين أهمية جمع رواياتها وحمل بعضها على بعض لاختلاف أحوال الناقلين فيما سمعوه، فمنهم من يسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله، وقد يكون الحديث جوابا لسؤال ويكون الناقل سمع الجواب ولم يسمع السؤال فينقل ما سمع، أو ينقل المطلق من كلام النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يدرك القَيد في كلامه، والأمر كذلك في فتاوى الصحابة، رضي الله عنهم، فلا بد للمجتهد من جمع الطرق وحمل بعضها على بعض وإكمال بعضها ببعض، سواء أكان من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم من فتاوى أصحابه، لأن خلاف ذلك هو ضرب لبعض الكتاب والسنة وأقوال الصحابة كل منها بعضه ببعض.

والاجتهاد ليس أمرا هينا يطيقه كل أحد، والترجيح بين أقوال المجتهدين ليس مما يتمكن منه الجميع، حتى ولو كان على علمٍ بالكتاب والسنة، لذلك وضع كثير من العلماء أنفسهم في مواضع التقليد، وانتسبوا إلى الأئمة، لأنهم لا يرون أنفسهم مؤهلين للاجتهاد المطلق في كل مسألة، لما يتطلبه ذلك من الوقت واستفراغ الوسع والجهد الذي ليس في مُكْنَةِ كلِ أحدٍ، أضف إلى ذلك أن تعمقهم في العلم وزيادة ثروتهم منه تجعلهم أكثر تواضعا له، واستشعارا بثقل مسؤولية القول فيه، ويحضرني في ذلك عبارة الجويني [تـ478 ] في كتابه البرهان في أصول الفقه حينما عرض قولا للشافعي وأراد إظهار رأي آخر له في المسألة، فقدم لهذا الخطب الجليل الذي يريد أن يقتحمه بقوله: «ومخالفة الشافعي في أصول الفقه عزيزة».

وشيوع القلم في عصرنا الحاضر أمر محمود، لكن الأمور المحمودة حينما تمتزج بأخرى خاطئة تصبح كقليل النجاسة إذا اختلطت بالماء الطهور، تجعله نجسا غير طاهر في نفسه ولا مُطَهِّرا لغيره، وكذا القلم اليوم حين خالطه عند الكثيرين ضعف في التورع عن القول على الله تعالى بغير علم، وبالغرور المعرفي، والانهزام الثقافي والحضاري، والانخداع بمشاريع الانقلاب الاجتماعي أو العمل معها، كل هذه الأمراض أو أحدها يفسد على أهل الأقلام أقلامهم.

لذلك نشأ عن شيوع الكتابة أمراض ثقافية واجتماعية كثيرة، ليس سببها زوال أمِّيَّةِ الحَرْفِ التي يُفْتَرضُ أنها تُعَزِّز لدى المرء شعوره بجهله البسيط، فيكون هذا الشعور دافعا دائما نحو المزيد من التعلم الذي كلما انفتح منه أفُق ازداد تواضع هذا الداخل فيه لضخامة المعرفة من حوله، وازداد إحساسه بضرورة لجم لسانه وقلمه عند حدود ما انتهى إليه علمه.

أما حين يُصاب حامل القلم بشيء من الآفات المتقدم ذكرها فإن الجهل البسيط يستحيل جهلاً مركباً لا يدرك صاحبه أنه يجهل، فينعدم عنده الدافع إلى المعرفة، ويصطبغ جهلُه بطلاء يشبه نَضْرَة العلم، فيغرّه ويخدع به أعين الآخرين.

لذلك لا نستغرب منهم طرح أسئلة جدلية، يُصَفِّقُ لهم بها المنخدعون بأصباغهم، ظنّاً منهم أنها حجج على أهل العلم ومن يلحق بهم من المتواضعين للمعرفة، وكثيرا ما ينخدع الناس بأدعياء العلم الشرعي تماما كما ينخدعون بأدعياء الطب وأدعياء الفلك وأدعياء العِمَارة ممن تُسْعِفُهم بعض المصطلحات فيستخدمونها باحتراف يُرَوجون مزاعم مهارتهم بتلك الفنون عند من لا علم لهم.

ومن هذه الأسئلة الجدلية، قولهم: لماذا كان يُخْفِي العلماء عنا تعدد الأقوال في المسألة الواحدة؟

ليصلوا من هذا السؤال إلى أن هناك أَطْرَا مُتَعَمَّدا من العلماء للناس على مذهب واحد، وتَعْمِيَة مقصودة عن خلافات العلماء وتعدد أقوالهم.

وهذا السؤال الجدلي لا يطرحونه في الفتاوى المتعلقة بكل أحكام الدين من مسائل الصلاة والزكاة والصيام والحج والبيع والجنايات وغيرها، وإنما يخصصون هذا السؤال بالأحكام الفقهية التي تُشَكِّل بمجموعها نظاما اجتماعيا مميِّزا لبلادنا المملكة العربية السعودية عن سواها من البلدان الإسلامية، كغلق المحال التجارية وقت الصلاة ووجوب صلاة الجماعة، وغطاء وجه المرأة وحرمة اختلاط الرجال بالنساء، الأمر الذي يُلْقي ظلالا حول القصد من تخصيص هذه القضايا بإشاعة ما فيها من خلاف، وأياً كان القصد فسوف أتحدث عن هذه الجزئية في نقاط:

الأولى: غيرُ مُسَلَّم أن الخلاف في كثير من المسائل المطروحة كان مجهولا عند الناس، ومع ذلك فليس الأصل في المفتي مهما كانت درجته أن يبين للسائل الخلاف في المسألة، ولم يكن العلماء يصنعون ذلك إلا استثناء، كأن يكون المستفتي من أهل العلم فيذكرون له الخلاف استطرادا، ومن نظر إلى كتب ظاهر الرواية لمحمد بن الحسن [تـ189هـ] تلميذِ أبي حنيفة وناشر مذهبه، وجدها لا تخرج عن مذهب واحد، وكذا الأمر في مدونة مالك، وأشهرها رواية سحنون [ تـ240هـ] عن أسد بن الفرات [تـ213هـ] عن ابن القاسم [تـ 191 ]، ولا يملي فيها مالك سوى مذهب واحد، ولا يخبر فيها عن أقوال من سواه من أهل العلم إذا خالفهم إلا قليلا، ولما اختلفت رواية المدونات وجد المالكية أنفسهم في حاجة إلى الترجيح بينها، فكان لهم في ذلك مؤلفات زاخرة من أكبرها البيان والتحصيل للقاضي أبي الوليد بن رشد الجد [ تـ520هـ] في أكثر من عشرين مجلدا مقتصرة على بيان ما هو مذهب مالك.

ولمع الشافعي في بغداد زمن النهضة الفقهية وكثرة الأئمة، وقد ساعدته رحلته في طلب العلم على الإحاطة بجميع الخلافات الموجودة في عصره، ومع ذلك لم يكن يفتي إلا بالراجح عنده، وألف كتابه الأم مقتصرا فيه على رأيه، واختصر فقهَه تلميذُه المزني [تـ264] ولم يذكر مع رأي شيخه رأيا آخر.

وكان الإمام أحمد أوسع العلماء فتيا وتعددا في الآراء في المسألة الواحدة، ولعل مجموع ما روي عنه من مسائل يفوق ما روي عن الأئمة الثلاثة قبله، ومع ذلك لم يكن يفتي إلا بما ترجح عنده ولا يسرد الأقوال للسائل.

وقُل مثل ذلك في العلماء بعدهم الذين كان الغالب على منهجهم في التأليف: كتابة مختصر يحوي كبار المسائل، ثم متن أكبر منه قد يشتمل على شيء من الاستدلال والتوجيه ثم كتاب للمتوسطين، وكل هذه لا تتضمن في الغالب إلا المذهب، وهي مكتوبة لسائر الناس وللطالب المبتدئ، ثم يؤلفون كتبا في الخلاف يقدمونها لطلبة العلم تكون قصيرة ككتاب الإشراف للقاضي عبدالوهاب، وطويلة كالمبسوط للسرخسي، وهذا النوع من الكتب هو الذي يذكرون فيه الخلاف والترجيح موجها للمختصين، وفيه من الاصطلاحات ومناهج الاستدلال ما لا يدركها إلا متخصص في الفن متقن له.

النقطة الثانية: أن الدين ليس بالتَّخَيّر، والسائل ليس له أن يتخير من أقوال الفقهاء ما يوافق هواه ليعمل به، لأن الله تعالى أمرنا باتباع أمره، وهو ما نُطْلِق عليه الدليل، ?واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون? [الزمر: 55]. ونهانا عن اتباع ما يلائم نفوسنا، وقد سماه الله الهوى ?ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا? [الكهف: 28]. وهذا السائل إما أن يكون فاقدا لآلة الترجيح بين الأقوال أو مالكا لها، فإن كان الأول فليس على المفتي أن يخبره إلا بما ترجح عنده لكي لا يشوه ذهنه ويكلفه فوق وسعه، وإن كان مالكا لآلة الترجيح فليس بحاجة إلى سؤال المفتي عن الحكم، فضلا عن سؤاله عن الأقوال في المسألة.

النقطة الثالثة: أن الأمة إذا تواطأت على العمل برأي معتبر شرعا فهذا من اجتماع الكلمة التي هي من مقاصد الشرع، ولا ينبغي تفريقها برأي آخر ولو كان هذا الرأي الآخر راجحا في نظرك، وإذا كنت ترى لنفسك العمل بالرأي الذي ترجحه فاعمل به دون الدعوة إليه، لما في ذلك من إشاعة الخلاف والجدل في الأمة، وهذا خلاف قصد الشارع.

فكيف إذا اختارت الأمة القول الأبعد عن الشبهة والأخير والأحوط، فالواجب تشجيعها عليه وترغيبها فيه، لا ترغيبها عنه وكأنه منكر من المنكرات.