عوامل عدة تلك التي تعيد الأمم إلى الحياة بعد سحق الحروب، ولا بد من توفرها لتلك العودة وأن ترى دول تهدمها الحرب، بل وتبقى في حالة الحرب كذلك لأكثر من نصف قرن مثل كوريا الشمالية، ثم تبحث عن سلم بعد عقود من العودة للوراء، أو من دول مرشحة لذلك بسبب تسلط ميليشيا أو نزاع على السلطة بين الشعب والحاكم أو لأسباب مختلفة، فيستيقظ السؤال عن المستقبل ما بعد الحروب، وأن يصف كاتب متفلسف مثل ستيفان سفسايج، وهو مشاهد للحربين العالميتين، بعقله وحواسه حال أوروبا، وهو واحد من أكثر من ترجمت له الكتب في العالم مطلع القرن العشرين، فقد تجاوزت القارة عصورها المتعددة، وقطفت ثمار عصر العقل ثم النهضة والصناعة حتى الحرب، ووصلت لما يمكن تسميته عصر النضج، فأطلت الحرب في عمر الحضارة كأزمة منتصف العمر عند الأفراد.

فلا يمكن أن تكون الحضارة غير حزمة متكاملة من القيم ابتداء، ثم أفكارا تقدح زناد القوة، وقد تحطمها بعد استيفاء أجلها حتى مع انتشار السلام بين البشر، فالحرب هي (الارتداد عن الحضارة) كما يقوله صديقه فرويد والتي كان من أسبابها زيادة القوة الفائضة التي أطلقت نفسها والدينامية الداخلية والاستعداد المبالغ فيه للمخاطر، فقد أقرت ألمانيا ضريبة حرب في منتصف السلم، وطفا على السطح ما استتر من التنمر الاجتماعي للألمان فأنتج سياسة مشابهة، فأسقطت النظام الحاكم في النمسا بعد أكثر من ألف عام، وزادت ثروة فرنسا وطلبت المزيد فاستعمرت ربع إفريقيا، وأفلتت من العقال قدرة الساسة على توجيه دفة المصالح، وفقدوا منظم الطاقة الكامنة، وتوقفت الحضارة عن الحوار في المبادئ، وتوهم المثقفون بأن أوروبا الروحية والأخلاقية سوف تتجلى قبل لحظة الحسم بروح التسامح.

وتعرض الألمان في الحرب الأولى إلى فقدان الحقوق والفوضى، فقال سفسايج رأيا غريبا بأن الألمان بعد الحرب الأولى شعب منضبط جدا، فجاءت الحرية فلم يدر ما يفعل بها، فتطلع نافذ الصبر لمن ينوون أخذها منه، فوقع بصرهم على هتلر خوفا من عودة الفوضى، وقد قال قديما فيلسوفهم غوته إنه يمقت الفوضى أكثر مما يمقت الجور، فهي التي حركت الغرائز البدائية والحيوان البشري الباطن، لأنه بعد أيام من بدء الحرب العالمية الأولى رخص الإنسان وتضخمت الأسعار، فأصبح ثمن البيضة كثمن سيارة فاخرة، وثمن الدار يساوي قيمة نافذته سابقا، وطبعت المدن عملتها الخاصة وانتشر قبح المجاعة، وهذا ما دعا الناس إلى مراجعة مفاهيم الحياة الصحيحة والبحث في الذاكرة الجماعية عن قيم أعلى، وفي الزاوية الأهم من سرد الفيلسوف ينظر إلى عامل الثقافة والتعليم الحقيقي المنتج لها في القدرة على إعادة روح الشعوب، فتوافرت أسباب الحرب، وبالمقابل اكتملت سنن الانبعاث والبناء والعودة.

وبعد سحق الحربين وموت ما يقارب الثمانية والسبعين مليونا عادت أوروبا بأسباب رغبة الوجود وبأداة الثقافة المتجذرة، فكان شعار فيينا الشهير والمتحضرين في أوروبا «عش ودع غيرك يعيش»، وهو مخرج تشكل فعلا للتحرر من الكراهية التي تسري في التنوع الإنساني، فشعلة الثقافة دعمها تقديس العلم منذ أواخر العصور الوسطى، فلم يكن يستدعى الطلاب إلى المحاكم التي للعامة، بل لمستوى أرقى من القضاة والإجراءات، ومع أن الدراسة الأكاديمية قد تكون عملية ومفيدة وناجعة للمواهب المتوسطة، إلا أنها فائضة بالنسبة إلى الطبائع ذات الإنتاج الفردي، وربما تتحول إلى عائق لهم وتبقى أهمية التعليم حاضرة، فها هي جامعة فيينا كان عدد طلابها يجاوز السبعة آلاف طالب عام 1904، أي قبل الحرب العالمية الأولى، مع أن النمسا من أصغر دول أوروبا، وكانت مراحل التعليم العام قبلها تستلزم من الطالب إتقان خمس لغات، لأن جامعات أوروبا أتقنت دور المثاقفة قبل التعليم والتدريس، فكانت وفاة كاتب أو نحات أو مسرحي مؤثر تستدعي حدادا وطنيا، وفي حياته يفرغ للثقافة ونشر الوعي، أو يوكل له مهام بسيطة ليجد وقتا للإبداع، فأنشأت الثقافة حرية سليمة وصلت لكل مفاصل الحياة حتى المواخير انحسرت، لأن كل أشكال الاحتشام الزائف أصبحت قديمة، فمن يكبت الرغبات الطبيعية بنفاق فهو لا يخفق في التخلص منها، بل يزيحها إزاحة خطرة إلى العقل الباطن، كمن يكبت الرأي والموهبة، وكان المقهى يعتبر ناديا ثقافيا يحوي جل الصحف الرصينة في أوروبا وبلغات عدة، إضافة إلى المجلات الأدبية والفنية وفرصة نقاش المثقفين، وكل ذلك بثمن كوب قهوة.

واختارت الطبقات الأعلى ثقافة من التسلية الشطرنج لأثره في التفكير والذاكرة، وهدم مرة مبنى ثقافي لتوسعته، حيث ضاق بزواره، فحمل المثقفون والعامة منه حجرا لبيوتهم، وتظاهر الناس وقدموا عرائض، ومنعوا النية بهدم منزل بيتهوفن، فلقد كان المبنى التاريخي أو مما له صلة بالثقافة فلذة تنتزع من أرواح الناس، في الوقت الذي يحضر فعالية ثقافية واحدة مطلع القرن العشرين أكثر من ثلاثمئة ألف إنسان، وأثرت الثقافة في الحقوق، ففرض تقصير ساعات عمل الطبقات العمالية الأقل ليشاركوا في مباهج الحياة وفي حركة القوى السياسية، بل ازدهر التفكير والوعي بوجوده ونقده حتى أصبح من النادر أن يتحسر أحد على زمن مضى غير قلة من الشيب المنكمشين، حتى الموت في فيينا كان يراد منه الموت الجميل في المشهد الخارجي مع موكب مهيب ومشيعين كثر تمتزج فيه الألوان، وفي هذا الإقبال على ما هو مسرحي، سواء أكان على خشبة المسرح أم في الواقع، فكانت المدينة منسجمة كل الانسجام، ومما وصفه في باريس قبل الحرب العالمية الأولى أنه لا أحد يبالي بالعرق والطبقة والمنبت، فكان المجتمع متواصلا بشكل سليم وسلس، فالعامل يشعر بأنه مواطن حر وذو شأن كرب العمل، وفي المقهى يصافح النادل الجنرال المزركش بالشرائط الذهبية مصافحة حارة، والمرأة البرجوازية المتواضعة الحصيفة المتزنة لا تشمخ بأنفها على الخادمة وتتباسط معها في الحديث، ويذهب أبناء البرجوازية إلى بيتها يحملون الورود في مناسبة لها.

وشاعت مستويات رفيعة في كل النواحي الثقافية، فالمثقف يشعر على الدوام أنه أحسن حالا وأكثر إلهاما حين يحظى بالتقدير، ويؤثر ذلك على سلوكياته، فيفرض عليه إطار القدوة، فيحافظ أحدهم على احترامه، ويتفادى السلوك الفج وتدني العبارة والعجلة، فهي تخالف الثقافة واللياقة بعيدا عن الجهل بأداة إثبات الوجود من خلال الضدية وصناعة العدو.

 فقد وصف الفيلسوف سفسايج ضعف الشخصية في رجل عرفه، فقال إنه من أولئك التعساء الذين لا بد أن يكونوا ضد شيء مهما كان ذلك الشيء، وحتى هذبت الثقافة القلق وحجمته في البحث عن دور، وحتى في جانب القلق الاقتصادي في عدم قدرة صعود الفقراء إلى الطبقات الأعلى، وقلق الطبقة الوسطى من الهبوط والعودة للبلوريتاريا.

وانتشر بعد كل حرب دعاة سلم بمشعل الثقافة وهي الداعم الرئيس لتوقف الحرب، وقد ضرب لها مثال عن الكاتبة بيرثا فون ستاتنر التي لم تر إلا مهمة وحيدة لها في الحياة، وهي أن تمنع نشوب حرب، وكتبت روايتها الأشهر (ألقوا أسلحتكم)، ونظمت لقاءات من أجل السلام، وكان انتصار حياتها أنها أيقظت ضمير ألفرد نوبل، مخترع الديناميت، للتعويض عما سببه اختراعه من شرور، فأنشأ جائزة نوبل للسلام والتفاهم بين الأمم. وليست ستاتنر الوحيدة بدورها ذاك الزمن، فقد كان من أصدقائه المؤلف غوركي وريلكه، وبرنارد شو وارثر، والشاعر سيمونز وبيتس وسلفادور دالي وغيرهم.

وحوى كتاب ستيفان سفسايج الموسوم بـ(عالم الأمس) في الزاوية الأهم منه وصفة فلسفية من الجانب الثقافي كضرورة لعودة الأمم بعد الهدم، وهاجر وتنقل سفسايج وهو القائل -نجد مواضع للهجرة ولا نجد وطنا- بسبب الحرب الثانية مرات عدة، داعيا لسلام دائم ثم مات بنهاية حزينة في البرازيل قبل أن تتحقق نبوءته للمرة الثانية وقبل أن يرى أوروبا تستعيد الوجود، وبأن الأمم المتهدمة الجريحة تعود للحياة إن كانت الثقافة راسخة فيها وجزءا من شخصيتها.