‏جاء المرسوم الملكي الكريم، الصادر في السادس عشر من شعبان الجاري، بمنع تعرّض كل من يبلّغ عن واقعة فساد مالي أو إداري في مؤسسة أو جهة حكومية يعمل فيها، لأي إجراءات عقابية أو انتقامية من جهة عمله، ليؤكد على حقيقة بالغة الأهمية، مفادها أن الدولة في ظل سعيها إلى مكافحة الفساد وإقرار مبادئ الشفافية والعدالة، لن تتوانى في حفظ حقوق من يسعون إلى إنزال تلك القيم النبيلة على أرض الواقع، وضمان عدم تعرضهم لأي عقوبات بسبب ذلك، وتوفير الحماية القانونية والإدارية اللازمة لهم.

المرسوم يستمد أهميته وقيمته من أنه صادر عن المقام السامي، وبتوقيع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، شخصيا، مما يؤكد أن الأجهزة المختصة بالمتابعة ستتولى تنفيذه على وجه الدقة، وبحرفية شديدة.

فمسيرة الإصلاح والمراقبة لن تتوقف، ومهمة ملاحقة المفسدين والفاسدين ستتواصل، حتى يتم اجتثاث هذا الداء الذي يفوق في خطورته وآثاره سالبة داء الإرهاب، فمن يجير المصلحة العامة لمنفعته، لم يستأثر بها لنفسه فحسب، بل إنه تغوّل على حقوق غيره وحرمهم إياها، لذلك لا ينبغي أن يسلم من العقاب. بغض النظر عن اسمه أو منصبه أو أي اعتبارات أخرى، لأن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ومقدمة على كل ما سواها.

وفي هذا الصدد، فإن كلمات خادم الحرمين الشريفين الشهيرة تظل نبراسا وهدى، عندما توعد بمحاسبة ومعاقبة المفسد «كائنا من كان»، وهي جملة ينبغي أن تكتب بمداد من ذهب.

وإن كان البعض يرى أن الفساد المالي هو الأولى بالمحاربة والاستئصال، فإن الفساد الإداري لا يقل عنه سوءا، إن لم يكن يفوقه، فهو المدخل الأول لاختلاس الأموال وسرقتها، ونهب الممتلكات العامة، إضافة إلى مصادرة حق المواطنين في الحصول على حقوقهم.

ورغم أن الفترة الماضية شهدت ملاحقة ومحاسبة شخصيات عامة، إلا أن هناك بطبيعة الحال من يحاولون عرقلة توجه الدولة نحو إقرار مبدأ الشفافية والنزاهة، لأن الفساد صفة سالبة موجودة عند البعض، بحسب النزعة البشرية.

وللأسف، فإن جزءا من هؤلاء لم يستوعبوا الرسالة الملكية، ولم يحسنوا تفسير مفردات العصر الحالي، وظنوا أن بإمكانهم الاستمرار في ممارساتهم السالبة التي اعتادوا عليها، وأن باستطاعتهم الإفلات من المساءلة، وتهديد من يعملون على كشف سوءاتهم، وبيان تجاوزاتهم، لذلك حاولوا إسكات الأصوات التي سعت إلى تسليط الضوء على ما اقترفوه من مخالفات، بل إن بعض من تطوعوا للقيام بذلك الدور الوطني المهم تعرضوا للملاحقة، وفُرضت عليهم العقوبات التعسفية.

المرسوم الملكي -في المقابل- لم يغفل عن جانب في غاية الأهمية، ولأن القاعدة القانونية الشهيرة «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، فقد شدّد في المقابل على حفظ حقوق من توجّه إليهم الاتهامات، حتى يتم التحقق منها، وأتاح لهؤلاء الحق في مقاضاة من يثبت أنه وجَّه إليهم الاتهامات بصفة الكيدية، شريطة إثبات ذلك بالأدلة. وهو بهذا يحفظ حق الجميع، مدعيا ومدعى عليه. ومن الضروري التأكيد على أن من تثبت براءته بعد توجيه الاتهام إليه ليس بخاسر في كل الأحوال، وربما يكون البلاغ ضده قد تم تقديمه بحسن نية، وليس بالضرورة أن يكون وراءه الرغبة في الانتقام أو دوافع شخصية.

ومهما تكن الأسباب والدوافع، فإن بإمكان الجميع الحصول على حقوقهم، وليس في ذلك ضير، ما دام يتم بالطرق القانونية، وهذه أولى علامات دولة القانون والمؤسسات.

وحري بالقول، إن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والتي ترد إليها البلاغات، وتتولى متابعتها والتأكد من صحتها، تضم عناصر قانونية مشهود لها بالكفاءة والمقدرة، وتحكم طبيعة عملها آلية واضحة، يتم بموجبها تقييم البلاغات الواردة، وتعمل على جمع الحيثيات اللازمة، ولا يتم تجاهل أي بلاغ حتى لو كان مقدمه لا يملك الأدلة الكافية، فإن الهيئة تعمل على استكمال الأدلة، وتبحث عنها، قبل التحرك بصورة رسمية أو مخاطبة الجهات المبلَّغ عن وجود شبهات الفساد فيها، توفيرا للجهد، وضمانة لجدية العمل.

الرسالة الملكية واضحة، وهي أنه ليست هناك حصانة لمفسد، ولا يوجد أحد فوق القانون، ولن يُضام مواطن بسبب سعيه إلى حفظ المال العام، فقد عانينا في السابق من سلبية كثيرين، كانوا يشاهدون التجاوزات المالية والإدارية بأعينهم ولا يملكون الجرأة للإبلاغ عنها، بسبب الخوف من التعرض للانتقام، إلا أن المجتمع السعودي -ولله الحمد- انتفض ضد المفسدين والفاسدين، وتجاوب مع توجّه الدولة لإقرار العدل والمساواة، ونزع عن نفسه رداء التجاهل والتغاضي عن حماية حقوقه، بعد أن رأى قيادته تشمّر عن ساعد الجد، وتعلنها حربا شعواء ضد كل من يحاول الاستئثار بثروات هذه البلاد لنفسه أو أقاربه.