في السابع عشر من رمضان وقعت غزوة بدر، معركة خالدة في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ البشرية، حيث مهدت لميلاد خاتم الأديان السماوية، سماها الله في القرآن الكريم يوم الفرقان، فرقت بين الحق والباطل، فصلت بين تاريخين، أرخت للدين الجديد الذي بشر به عيسى، وانتظرته البشرية.

لا يمكن أن يمر يوم 17 رمضان دون أن نتوقف عنده كثيرا، وطويلا، يوم ليس للنسيان، وليس للذكرى فحسب. يوم للحياة، وإيقاظها وتجديدها، يوم تتوقف عنده عجلة الحياة المتسارعة، لتتزود بالدروس.

الأفراد والمجتمعات والأمم، في معاركهم الحربية والسلمية، القومية والوطنية والشخصية، التحديات والطموحات والإنجازات والرؤى المستقبلية، يمكنها جميعا أن تتزود من غزوة بدر.

المجتمع السعودي الفتي، المواطن السعودي الطموح، الرؤية، حرب الوطن في الجنوب، وضد الإرهاب بأنواعه، المستقبل المحفوف بالآمال والمخاطر، كلها يمكنها أن تتزود من غزوة بدر، تستضيء بقناديلها المعلقة على ممرات التاريخ المجيد، وترتوي من نهرها الجاري بالعبر والعظات، القادة والمفكرون والساسة وصناع الحدث، يمكنهم الجلوس لمائدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة، والتقاط عشرات الإشارات التي تعينهم على رحلة التغيير ومخاطر القيادة، حتى المواطن البسيط يستطيع أن يغير بعض آرائه وأفكاره ويبدد مخاوفه ويستعيد قوته الداخلية إذا منح نفسه فرصة السفر في سموات هذه الغزوة الربانية.

دروس كبرى كمصابيح السماء تنير ليل السائرين والحائرين والعابرين، والمجددين والمصلحين.

المجتمع السعودي مجتمع فتي شاب، مقبل، شاء أم أبى، على عهد جديد، المجتمع المدني في غزوة بدر كان مجتمعا جديدا فتيا، يجهل مستقبله، لكنه كان يعد نفسه لتحديد ملامحه، أطياف المجتمع السعودي هل تذكرنا بأطياف المجتمع المدني، المهاجرين والأنصار واليهود والمنافقين والأعراب؟!

المقارنة بين أفضل مجتمع ظهر على وجه الأرض منذ فجر البشرية وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تبدو خالية من المنطقية.

حسنا، نحن هنا لنتعلم، ونستقي الدروس، الرؤية في حياة السعودي حدث كبير وتحدٍّ غير مسبوق في تاريخ الوطن على كافة الأصعدة، والرؤية مستقبل قريب، سنعيشه ونتفاعل معه، التفاعل مع المستقبل يحتاج إلى تربية، التغيير بالصدمة ينجح، لكن ليس دائما، خاصة فيما يتعلق بالنمط الاجتماعي، الرسول -صلى الله عليه وسلم- استغرق 13 عاما في مكة، غرس فيها القيمة الكبرى التي كان معنيا بغرسها، قيمة التوحيد، لكن بعد الهجرة، وقبل غزوة بدر، كانت مدة الإعداد التربوي عامين فقط أو أقل، التربية بالقدوة تختصر السنوات، وتجهز المجتمع في مدة وجيزة بالقياس إلى الأنواع الأخرى من التربية، خاصة في مجتمع غالبيته من الشباب، كمجتمعنا السعودي، محمد -صلى الله عليه وسلم- قام بهذا الدور، وساعده كبار الصحابة الذين كانوا قدوات كبرى للمجتمع المدني الناشئ، الحكومة لا تستطيع القيام بكل الأدوار، وقادة المجتمع ليسوا أنبياء، ولا يجب النظر إليهم على أنهم كذلك، لكن المواطن الأب، والمواطنة الأم، والمعلمون والمعلمات، والمصلحون والمصلحات، والمفكرون والمفكرات، يمكنهم القيام بأدوار كبرى في هذه المرحلة لإعداد الجيل الشاب لاقتحام المستقبل بثوابت الماضي، دون أن يتسبب ذلك في تلف النسيج الاجتماعي أو المساس بالثوابت والقيم.

جزء التربية بالقدوة الذي قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإعداد المجتمع المدني لخوض معركة كبرى فاصلة في التاريخ، يمكن أن يقوم به المواطن العادي في بيته ومدرسته ومسجده ومحيطه الصغير، القيادات العليا والمؤسسات الحكومية مهما كانت معنية بنجاح الرؤية، فهي لا تستطيع القيام بجميع الأدوار، والمواطن مهما ظن أنه ليس له الأمر شيء، فلا يخول له ذلك الوقوف مكتوف الأيدي لأن قطار المستقبل سيدهسه، ولا حتى التنحي جانبا، لأنه سيمضي ويتركه وحيدا.

إيجابية المواطن السعودي واستعداده لخوض التحدي هو الخيار الأفضل لتحقيق الرؤية، موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- والدروس المستقاة من تسييره لمعركة بدر ليست لولاة الأمر فقط، وهي كذلك بصفته قائدا، لكنها أيضا للمواطن البسيط بصفته -صلى الله عليه وسلم- أبا وزوجا ومعلما ومربيا وصديقا وفردا في منظومة الأسرة والعائلة والقبيلة والمجتمع.

أحداث الغزوة كانت متسارعة، والهدف المبدئي كان قافلة قريش التجارية، وهو هدف مخملي، تمناه الصحابة كما أشار الله سبحانه إلى ذلك في سورة الأنفال: «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ».

ونحن أيضا نحلم أن تتحقق أهداف الرؤية المخملية دون أن نضطر لدفع ضريبة باهظة، ترهقنا على المدى القصير أو الطويل، وهو أمر جيد، إن حدث، لكن الأمور لا تسير دائما كما نحب، ولذلك حين وجد النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة أن غنيمة القافلة لن تتحقق إلا بضرب الرقاب وإسالة الدماء وبذل الأرواح والأموال، لم يتراجعوا، بحجة أن المجتمع ما زال فتيا، وأسوار المدينة ليست محصنة كما ينبغي، والجيش المحمدي لم يكن جاهزا تماما لخوض معركة قد يتم فيها استئصال شأفة الإسلام في حال خسرها المسلمون، بل قرروا خوض التحدي، مستعينين بالله، عز وجل، ومتسلحين بالصبر والتوكل، وهي الأمور اللازمة مع الشجاعة لكسب جميع معارك الحياة بجميع أنواعها، وهو ما يلزمنا لخوض تحدي المستقبل واقتحامه دون أن نضيع المزيد من الوقت في جمع المبررات واستحضار المخاوف، ولم يمنع ضيق الوقت الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أمرين مهمين، هما التخطيط والشورى، بل كانت الشورى جزءا من التخطيط، والإنسان بطبعه يستميت في الدفاع عما يظنه صحيحا، ويشعر بالحب والولاء تجاه القرارات التي شارك ولو لمحة في صناعتها، وهو الأمر الذي تحقق في غزوة بدر، وتعتبر قنوات التواصل الاجتماعي منصة كبرى لمشاركة المواطن في صنع ملامح الرؤية، ينبغي ألا يغفل عنها المسؤولون حسب ما يناسب مقتضى الحال.

وأخيرا، فإن دروس غزوة بدر الكبرى للفرد والمجتمع والقادة أكبر من أن يستوعبها مقال، لكنها إشارات في الطريق، «لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد».