-1-
دَرَجت "مؤسسة الفكر العربي" على إصدار "تقرير التنمية الثقافية" كل عام، منذ ثلاثة أعوام. وكان آخرها التقرير الثالث الذي صدر في ديسمبر 2010 عن عام 2009. ومثل هذه التقارير مهمة ونادرة في الحياة الثقافية العربية المعاصرة. ولم تقدم عليها أية وزارة من وزارات الثقافة العربية، ذات القدرة البشرية والمالية الكبيرة. ومن هنا، كان من الواجب تثمين هذا الجهد الثقافي الجاد، الذي تبذله "مؤسسة الفكر العربي" منذ ثلاثة أعوام، لكي تضع العرب جميعاً أمام أنفسهم، وأمام مرآة الحقيقة الثقافية، ليروا فيها وجوههم، وأعمالهم.
-2-
لقد سبق تقارير التنمية الثقافية الثلاثة، تقارير التنمية البشرية العربية التي بدأت بإصدارها الأمم المتحدة منذ عام 2002. وجنَّدت لها الأمم المتحدة كل قواها البشرية والمالية الدولية. ولكن هذه التقارير لم تلقَ – هي الأخرى – التقدير والتثمين الكافيين من الإعلام العربي ومن المسؤولين العرب. كذلك كان حال التقارير الثقافية العربية التي صدرت عن "مؤسسة الفكر العربي". ومن هنا، كان عتب الأمير خالد الفيصل في كلمته التي ألقاها في إطلاقه لتقرير التنمية الثقافية الثالث حين قال: "لو أن كل مسؤول أو مواطن عربي منح من وقته ثلاث ساعات مُعمّقة، لقراءة التقارير من أمثال التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية، لوصلنا إلى النتيجة المرجوة من نهضة العالم العربي .. إذ هذا، هو الاهتمام الذي نتوخاه من مسؤولي الوطن العربي ومواطنيه، حيث هناك كمٌّ من المنتج الثقافي والفكري والأدبي العربي، ولكن السؤال: هل يُحلَّل هذا المنتج.؟"
-3-
وبهذا، وضع الأمير خالد الفيصل إصبعه على الجرح الثقافي العربي، الذي يكاد يكون أبدياً، وهو أننا أمةٌ لا تقرأ. ولو كنا أمة تقرأ لما كان حالنا، ما نحن عليه الآن من تخلف، وجهل.
فمحنة الثقافة العربية ليست في عدم وجود مُنتَج ثقافي جدير بالقراءة، والتمعن، والتبصر. فالنتاج الثقافي العربي المعاصر عامة، لم يزدهر في أي عصر من العصور كما ازدهر في هذا العصر، نتيجة لثورة المعلومات والاتصالات، وما حققته الثقافة الغربية من انتصارات ونتائج مهمة، استفادت منه الثقافة العربية كثيراً، وخاصة ما يتعلق بمناهج التفسير والتحليل والتفكيك المختلفة. وما حجب بعض الجوائز المهمة عن هذا النتاج الثقافي، إلا بسبب التضارب بين إيديولوجية هذا النتاج، وإيديولوجية الجائزة المرصودة.
إن محنة الثقافة العربية، وعدم الإقبال على القراءة والمعرفة خارج المناهج المدرسية والدراسية، نابعة من التربية الثقافية، التي تبدأ من البيت، وتنتهي بالبيت. فكثيراً ما نتهم الإعلام بهذا التقصير، ولكن الإعلام يحاول أن ينشر خبراً هنا وهناك، شأنه في ذلك شأن الكتب التي تصدر هنا وهناك، من حين لآخر، ولكن عدم توفر معلقين، ودارسين، ونقاد، لما يصدر من نتاج ثقافي ومنه "تقرير التنمية الثقافية" الذي نتحدث عنه هنا في هذا المقال، ناتج عن فقداننا للتربية الثقافية السويّة. فجذور الأزمة الثقافية، التي أشار إليها الأمير خالد الفيصل في كلمته، التي أطلق بها "التقرير الثالث للتنمية الثقافية" أبعد غوراً من نطاق الإعلام فقط. ذلك أن جذور هذه الأزمة تمتد في البيت العربي، وتبدأ منه، ثم تخترق الأرض إلى المدرسة، ثم إلى المعهد والجامعة، لتلتف، وتعود مرة أخرى إلى البيت، بعد أن يكون الشباب والشابات قد تخرجوا من الجامعات، وعادوا إلى بيوتهم، ينتظرون خطاب التعيين للعمل، ولكنهم لم يجدوا كتاباً واحد يقرؤونه، وهم إن وجدوه فلن يقرؤوه، بعد أن لم يعتادوا القراءة خارج المنهاج الدراسي والجامعي، وهو المنهاج الذي كرهوه، وتثاقلوا منه، وحمدوا الله أن خلصوا، وانتهوا منه.
-4-
ورغم هذا الوضع المأساوي والمحزن الحالي للتربية الثقافية العربية، فما زالت الكلمة العربية المكتوبة تقرأ، ولكن على نطاق ضيق جداً (من النادر طباعة أكثر من ثلاثة آلاف نسخة من كتاب واحد، باستثناء كتب سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية، التي توزع أكثر من 40 ألف نسخة، لتوافرها ورخص سعر النسخة التي تباع بدولار واحد. وهي أرخص نسخة كتاب في العالم). فالكلمة المسموعة والمرئية زاحمت الكلمة المكتوبة (ومن هنا قلنا في مقالنا السابق إن الأمية الأبجدية في هذا الوقت، لم يعد لها أثر سلبي كبير على سواد الناس، حيث لم تعد الكلمة المكتوبة تحتكر المعرفة). ومن هنا توجَّب على منتجي الكلمة المكتوبة كـ "مؤسسة الفكر العربي" أن تبذل جهداً مضاعفاً، لإيصال تقارير التنمية الثقافية إلى قرائها، لكي يصبح لهذه التقارير المردود الثقافي الكافي، والذي لخصه الأمير خالد الفيصل بقوله:
"ما نرجوه، هو أن يتوازن الاهتمام بكمية الإنتاج مع التوازن في القراءة، كي ينجح المواطن العربي في كل ما ينتجه، سواء محلياً أو عربياً، أو عبر الأعمال المترجمة. فالتقرير الأول للمؤسسة حاز بعض الاهتمام، وكُتب عنه، ولكن باستحياء في الإعلام العربي. أما التقرير الثاني فكان أوفر حظاً، ووجد اهتماماً أكبر، بل وذُكِرَ في مجالس وزراء العالم العربي. وهذا كان من أهم دوافع تشجيعنا للاستمرار. ونحن اليوم نقدم التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية، ونرجو أن يحظى بالدراسة والنقد والتحليل، ونريد ممن يقرأ التقرير، أن يساعدنا على تحليله."
-5-
ونرى، أن لا سبيل لتفعيل مضمون "تقرير التنمية الثقافية" المهم لهذا العام وللأعوام القادمة، إلا بانتهاج التالي:
1- تكليف شركة توزيع إعلامية ناشطة وقوية لتوزيع هذا التقرير مجاناً، أو بسعر رمزي جداً، ليشمل كافة الصحف والصحفيين ووسائل الإعلام والإعلاميين والمثقفين الذين يكتبون في الصحف يومياً أو أسبوعياً، لكي يقرؤوا ويعلقوا على هذا التقرير، والتقارير المستقبلية.
2- إنشاء دائرة إعلامية قوية داخل "مؤسسة الفكر العربي" لنشر نتاج ونشاطات هذه المؤسسة التي ازدادت، واتسعت، وتشعبت في الآونة الأخيرة.
3- إشراك أكبر عدد من السياسيين، ووزراء الثقافة، في نشاطات "مؤسسة الفكر العربي"، عملاً بقاعدة "لا إجراء ثقافياً مطبقاً بدون قرار سياسي."
4- إشراك أكبر عدد من الإعلاميين الفاعلين والمؤثرين في الإعلام العربي في نشاطات "مؤسسة الفكر العربي" عملاً بقاعدة "لا نتاج ثقافياً يصل المتلقي دون وسيلة إعلامية فاعلة."
5- وأخيراً، الحرص على تخليص كل نشاط ونتاج – بما فيه "تقرير التنمية الثقافية" – من أية إيديولوجية، لكيلا تصطدم بالإيديولوجيات العربية الكثيرة المنتشرة في الفضاء العربي. وهذا النهج، هو الذي يجنب "مؤسسة الفكر العربي" ونتاجها ونشاطاتها من الغلو، والتعصب، والتشدد، والصدام.