«لكنّها السعودية»، اعتدت مع طول الغربة ألا يخلو أي نقاش مع أي مسلم ألتقيه من هذا الاستثناء الذي يحمل عدة تفسيرات.

الحوارات تبدأ بالسؤال المعتاد: من أين أنتِ؟ ما رأيك فيما يحدث في السعودية؟ ثم صرنا ننتقل إلى المستوى الثاني من النقاش: هل أنتم جادون في هذا التغيير، أم هو زوبعة في فنجان؟

قلت لأحدهم قبل أيام، إنني سعيدة جدا بما يحدث، فنظر إليّ باستغراب وقال «لكنك تبدين محافظة! كيف ستتعايش سيدة محافظة مع واقع المرأة السعودية الجديد؟!»

أجبته: الحقيقة إننا نتعايش بامتياز، مثلما تعايشت المرأة المسلمة في بريطانيا مثلا مع واقع المرأة العام في بلادكم. المرأة المسلمة في كل مكان تدرس وتعمل وتتزوج وتنجب وتربي الأبناء، وتتقدم وظيفيًا وتحقق ذاتها وتقرأ وتكتب وتشارك في المحافل، ولا يحول بينها وبين أيٍّ من ذلك كونها مسلمة، بل الموفقة منهن تقوم بكل ذلك مع استحضار مفهوم إعمار الأرض مع شريكها الرجل.

وكالعادة، جاءني الردّ ملغوما بقوله «لكنها السعودية.. مهبط الوحي وأرض الحرمين وحامية الدين وفيها قبر رسول الله ?، وقبور أصحابه، وبلد يؤمه المسلمون من كل مكان للحج والعمرة والزيارة! كيف ستفلتون من كل هذه الخصوصية؟!»

الحقيقة، إنني شخصيًا لا أريد أن أتخلى عن هذه الخصوصية، بل أريد لها أن تكون على رأس المرشِّحات التي تفلتر حياتنا، ويمر من خلالها التطور والتغيير الذي أتمناه لبلدي ولواقع المرأة فيها!.

الخصوصية التي أتصورها وأريدها، تتمثل في مجتمع طبيعي متصالح مع واقعه، وخالٍ من آفتي التشدد والانفلات. مجتمع يحمل وطنه في عقله وقلبه، ويمارس الأفراد فيه حرياتهم التي يكفلها الدين والقانون، دون عقدة الإفراط أو هوس التفريط، وهذا ممكن جدا بإيقاظ الوعي وترسيخ الأنظمة، وإقرار القوانين لتنظيم حياة البشر.

هل سيكون هناك مخالفون لهذه الخصوصية؟ بكل تأكيد؛ سيقفز البعض عليها من الشمال واليمين، كفراشةٍ تسعى بحماقةٍ إلى حتفها لسوء تقديرها ومحدودية فهمها، وهذا لا يعني أن الخصوصية فشلت، لكنها سنةٌ كونيةٌ بأن تلفظ كل حركات التغيير شوائبها بعد فترة من التوهج الذي يتبعه الاستقرار، بإذن الله.

أشعر أننا محظوظون جدا، بأن رزقنا الله تعالى في هذه المرحلة قيادةً رشيدةً، تحرص على تعزيز فكرة المرشِّحات الدينية والثقافية والقيمية في المجتمع؛ فلا يمرر خلال قرارات الدولة وتصريحات مسؤوليها إلا ما يبني الهوية والثقافة، ويفرمت مفهوم الخصوصية بتعزيز الأصول واستبعاد ما يعزل مجتمعنا محليِّ الهوية وعالمي الطموح عن العالم.

للأمانة، أتفهّمُ شعور المسلمين حولنا، فقد لبثنا زمنا طويلا ونحن نتقبل الإطار المرسوم لنا، والذي يستخدمه البعض حبًا وتقديرًا، ويستخدمه آخرون سُلّمًا لمآرب أخرى.

ولأني لا أعلم الغيب، صار ردِّي على من يستثني عليّ في النقاش بقوله «لكنها السعودية» هو التوكيد بالرد: «بل لأنها السعودية!»

السعودية بكل ثقلها الديني والتاريخي والدبلوماسي والسياسي والاقتصادي. هذه هي السعودية الجديدة، وطنٌ نزع قادته -حفظهم الله- عصا الخصوصية، وأبعدوها عن عجلة التنمية ليواكب الشعب الفتيّ سرعة التغيير. جزء من قدر هذا الوطن العظيم أن يكون مدهشًا حتى في خطوات التغيير التي يتخذها بكل شجاعة.