تطرح وزارة العمل ما بين الفينة والأخرى برامج ومبادرات لدعم سوق العمل في محاولة لتصحيح مساره الوظيفي وإشكالاته الوطنية للخروج من مأزق البطالة المتنامية وإتاحة فرص التوظيف والتوطين لمواردنا البشرية، غير أنه وللأسف لم تفلح تلك البرامج والمبادرات والإجراءات المختلفة في معالجة أساس إشكالية سوق العمل الوطني، والتي يمكن حصرها بداية في: رفع نسبة التوطين الفعلي، وتمثل تلك المرحلة الأولى والأساسية، بل الجوهرية، للحد من البطالة المتنامية بين المواطنين، وذلك لن يتم في ظل أنظمة عمل ولوائح تشريعية وبنود لا تدعم توظيف المواطن فعليا، ولا تسانده فيما يتعلق بذلك من تحقيق أمانه الوظيفي واستمراريته من خلال نظام يكفل للمواطن حقوق العمل، التدريب الفعال، والأجر المناسب، والأفضلية في التوظيف، الإلزام بتوطين الوظائف التنفيذية والقيادية، تحقيق الأمن الوظيفي للمواطن بما يستهدف استمراريته وثباته وبمختلف مستحقاته، بالإضافة إلى ما يكفل الارتقاء بأدائه وبمستواه المهني والوظيفي وبأجره الشهري مرحليا، وذلك يتطلب المساءلة والمحاسبة لمن يخالف، وبذلك سينجح التوطين وستنخفض معدلات البطالة لنسبة كبيرة بين المواطنين، وسيشهد سوق العمل تحسنا كبيرا في صورته المشوهة التي لا تتفق مع إستراتيجياتنا الوطنية ولا تخدم تحقيق رؤيتنا وتطلعاتنا الوطنية.

نعلم أن وزارة العمل ليست مسؤولة عن توليد وظائف جديدة وبمستهدفات وطنية متقدمة، فتلك مسؤولية جهات أخرى -ليس هنا مجال التطرق إليها- ولكن مسؤوليتها تتحدد في ضبط وتنظيم واقع سوق العمل بإدارته وبموارده البشرية، من خلال تنظيمات وتشريعات تخدم المواطنين والوطن، وبانتهاج سياسات وإجراءات مدروسة تسهم في رفع نسبة التوطين الفعلي وليس الشكلي، ويندرج ضمن مسؤوليتها كذلك تقييم ومتابعة جدوى سياساتها وبرامجها المختلفة حول التوطين والتوظيف والبطالة، وأن يتم ذلك بشفافية عالية وبأسلوب علمي، بعيدا عن المكابرة والتجاهل للنتائج الفعلية لواقع سوق العمل.

ومن المعروف أن القطاع الخاص هو المستهدف بالتوظيف، ليس فقط لتخمة القطاع العام والمؤسسات الحكومية، ولكن لكونه القطاع المنتج، فهو المسؤول عن تنويع القاعدة الاقتصادية، وهو المسؤول عن توفير وظائف مستجدة، وهو المتخم بالعمالة الوافدة، وهو المعني بمسؤوليته في خدمة التوطين وفعاليته، وذلك بعد أن استأثر غير المواطن في نسبة المشتغلين فيه بنسبة 79.68%، أي نحو 80%، بينما لا يشتغل المواطن في القطاع الخاص في وطنه!!، سوى بنسبة 20.31% فقط، وذلك بناء على إحصاءات الربع الأول من عام 2018.

ولعله من المناسب أن نعلم أن المشتغلين السعوديين بمجملهم لا يشكلون في سوق العمل الوطني بمجمله، والذي يشمل منسوبي الخدمة المدنية، والعاملين تحت مظلة التأمينات الاجتماعية سوى نسبة 28.81% فقط من المشتغلين في الوطن، بينما يستحوذ غير المواطن على نسبة 71.18% من المشتغلين في سوق العمل الوطني بقطاعيه العام والخاص، باستثناء العمالة المنزلية التي تمثل وحدها 2.399.103 عمال منزليين بما يشكل 17.99% من جملة العاملين في سوق العمل الوطني، والبالغ عددهم 13.333.513 مشتغلا يشمل المواطن وغير المواطن في جميع القطاعات (الربع الأول 2018).

أما البطالة التي ترتبط ارتباطا مباشرا بفاعلية التوظيف والتوطين، فإن بياناتها تؤكد أنه ليس هناك مجال للشك بالإخفاق الذريع لجميع برامج التوطين والمبادرات الموجهة التي تطلقها وزارة العمل، والتي لم تُغير شيئا في واقع سوق العمل الوطني المشوه في هيكله التنظيمي والإداري والبشري، وذلك رغم النشرات المتوالية للوزارة بمغادرة نحو مليون إلى مليونين من غير المواطنين الوطن، وإلا فما تبرير تنامي وارتفاع معدلات البطالة لدى المواطنين، وما تفسير الثبات التقريبي لعدد المشتغلين من المواطنين، والذي يتضح عند المقارنة بين آخر إحصاءات 2017، وأحدث إحصاءات 2018 لمسوحات سوق العمل والأيدي العاملة.

وبالمقارنة بين بيانات مسوحات الأيدي العاملة للعامين المذكورين يتبين أن نسبة المشتغلين السعوديين زادت زيادة طفيفة لا تُذكر وبشكل نسبي لا يتناسب مع حجم المغادرين، وبما لا يتلاءم مع برامج التوطين والمبادرات المطلقة، ولا يتفق كذلك مع السياسات الوطنية نحو رفع نسبة التوظيف، فبعد أن كان المشتغلون السعوديون يشكلون نسبة 23.29% من جملة المشتغلين في سوق العمل الوطني (يشمل العمالة المنزلية) في عام 2017، أصبحوا 23.62% في عام 2018، وبعد أن كان الباحثون عن عمل من المواطنين عددهم 1.082.561 في عام 2017، أصبحوا 1.072.162 مواطنا في عام 2018، وكذلك معدل البطالة التي ارتفعت من 12.8% في 2017، إلى 12.9% في 2018، بل إن جملة المتعطلين السعوديين يشكلون من نسبة المتعطلين جميعهم 91.91%، أي 92%، وذلك في عام 2018، بينما كانت تلك النسبة 93.56% في عام 2017، بمعنى أن نسبة المتعطلين السعوديين لم تنخفض سوى بنسبة تتراوح بين 1-2% فقط.

وبناء على ما تم توضيحه بالبيانات والإحصاءات أعلاه، هل يمكن أن نتكلم عن برامج توظيف ومبادرات ناجحة أو فاعلة؟!، وهل يمكن أن نناقش وندعم سياسات سوق عمل صحيحة وناجحة؟! في واقع الأمر لا يمكن أن يكون هناك سوق عمل وطني يخدم توجهات الدولة ويدعم إستراتيجياتها الوطنية ويسهم في النمو الاقتصادي الفعلي المستهدف، وهو يستأثر بتلك النسبة من المشتغلين غير المواطنين في سوق العمل الوطني، وتلك النسبة من المتعطلين المواطنين، وفي حقيقة الأمر لو تم التوطين فعليا لفاضت وظائف عن حاجة السوق، ناهيك عن تطلعاتنا نحو توليد وظائف جديدة، ولذلك لا يمكننا أن نحقق تطلعات الوطن والمواطنين بهذا النوع من السياسات السلبية الضعيفة وغير المدروسة، والتي لا نجني منها سوى الإنفاق العام والجهود الضائعة دون جدوى، مع استمرار المعاناة والتحديات لأهم إشكالاتنا الوطنية وهي «البطالة والتوظيف»، والتي بمعالجتها سنحقق الكثير، ليس على مستوى الإنجاز الوطني فحسب، وإنما منها سنبدأ فعليا في استيعاب واقع معوقات وتحديات مسيرتنا التنموية الوطنية، وسنبدأ فعليا في بناء السعودية الجديدة وبأيادٍ وطنية أنفقت عليها الدولة بسخاء، وأثمرت في عطاء متنوع غير محدود، فأين هي؟!

الحلول لا تأتي من الخارج، ولا تنزل من السماء، ولا يتقدم بها من هو خارج دائرة الوطن، لأن هؤلاء لا يمكنهم أن يدركوا حجم وطبيعة الواقع والتحديات وطنيا وإنسانيا، كما أنهم لا يعنيهم حجم الخسارة المادية والبشرية والوطنية التي تترتب على سياسات لا تتواءم مع متطلبات وطبيعة الوطن والمواطنين، علاوة على أنهم لا يتحملون سلبيات نتائجها وإخفاقها...

وعليه فإن الاعتراف بالأخطاء الواقعة من سياسات وإجراءات ضعيفة، أو مبادرات وبرامج تكاد تكون وهمية لشدة ضعف مردودها وإخفاقها، يفرض علينا كمواطنين وكمسؤولين، التغيير الفعلي السريع الجاد والواعي، بما يسهم في إصلاح سوق العمل الوطني الذي يسيطر عليه أكثر من 70% من غير المواطنين والذين -بطبيعة الحال- يوجهون سوق العمل بما يخدم مصالحهم فقط، وليس مصلحة الوطن والمواطنين، لأن زيادة التوطين بديهيا ستقابلها انخفاض في نسبة وجودهم، وذلك يتم بمختلف السبل والإجراءات التي تشكل منظومة العمل وإدارته في القطاع الخاص المستهدف بالتوظيف، وإذا لم نؤمن ونستوعب ذلك المفهوم وحجم تبعاته السلبية، فلا ننتظر توطينا ولا نأمل في الحد من البطالة كما ينبغي، ولا نتوقع نجاح أي نوع من المبادرات والبرامج التي لا ينقطع إطلاقها، كما لا ينقطع الترويج لها إعلاميا دون جدوى حقيقية تُذكر، أو مردود تنموي ننتظره.