زرته قبل ليلتين فوجدته مستغرقا في صناعة الأمل، يستحث روحه الشاهقة فتورق كسنديانة أنجبت غابة من النور الشفيف، والنهار المتسع والمغمور بالبهجة اللذيذة والرضا المشمس، لا يزال يقاوم بفروسية أنياب الشيخوخة، وتجاعيد العمر، وسطوة الدهر، كانت كلماته تعبر إلى أذني كضوء شارد في تجليات من الوجد الدافئ، والتأملات المشبوبة، يصعد حواره تارة ويهبط أخرى بفعل جبروت المرض المنهك، وقسوة الأيام، وحصاد السنين، كان يضع رأسه على وسادة وثيرة من الأحلام الحبيسة والمؤجلة، والحكايات الهائلة والمتدفقة كنهر الفراديس البيضاء والينابيع الساخنة.

 محمد عبدالله الحميد عاصمة الثقافة في عسير، وخبز المعرفة المبصرة، وملح الأرض الودودة، كان يمسك بزمام الوعي المجتمعي ذات يوم، فيمثل مرحلة الريادة التعليمية والثقافية والفكرية، والكتابة الاجتماعية واللحظية المتسقة والمنسجمة مع المرحلة، له قدرة عجيبة على التواصل مع القارئ ورصد مشاهداته بعينه الثالثة، وتعرية ما لا يقبله لمجتمعه وأمته، كل هذا بلغة رصينة وإيقاع جمالي أخاذ، قراءاته مكثفة ومتنوعة وثرية، وبالذات ما نلحظه من حس تاريخي، ونزعة إلى التوثيق والتدوين والمراجعات التاريخية.

 مما يسترعي الانتباه في سجل حياته الحافل هو رفضه الذاتية البغيضة، والشخصانية الكريهة، وحبه وعشقه صنع الآخرين، وإظهارهم على مسرح الحياة، فكم يطربه ويسعده رؤيته لكل موهبة تتفتح أمام عينيه، فيحتفي بها ويسعى لتكريس حضورها الاحتفالي والمنبري والطباعي، وهذا عائد لما يسكن جوانحه من طهر أبوي، ونقاء سريرة، وروح امتلأت بفيض التضحية، وأفاويق الطيبة، وأخلاق الكبار، عرفته المنابر بالخطابة الجاذبة والمنتجة، مما يدفع الآخرين إلى الإصغاء له دون إملال، وهذا عائد لبلاغته وحكمته وعذوبة صوته، وصدق مقولته وسلامة لغته، فالرجل هدفه دائما الإصلاح، وغايته خدمة دينه وأمته ووطنه، في إدارته للشأن الثقافي في مؤسسة ضخمة كنادي أبها الأدبي، قاده بصورة مذهلة ونادرة، حيث صهر كل التيارات المتضادة والمتباينة والأصوات الحادة والمتقاطعة ليسلكها في منظومة متوائمة، وتكوين منفتح، وتماثل غير مسبوق.

 كان يمثل الرهان الواعي، والعلاقات التساوقية، واختراق الجدران الوهمية، ليحول المشهد الثقافي إلى حقول إبداعية مثمرة، وسلال معرفية غنية، وليؤسس لمنطلقات فكرية مسيجة بالوعي، والطرازات الذهنية الباذخة، والمحرضة على الإبداع القادر على هز سواكن الجمود ومدارات التخوم.

 صديقي الكبير «محمد الحميد» انهض من فراشك الذي تلوذ به هذه الليالي، وعد كالشعاع المتصاعد والمتعالي، لتشع فوق رؤوسنا قنطرة من الحب وهديل العطاء، وبيتا من الضوء والشرفة الممطرة، ولتفتح أبواب الحياة مرة أخرى. صديقي أنا لا أملك إلا هذه الحروف والمشاعر، وعلى الآخرين أن يكرموك قبل أن ينطفئ السراج.