أزعم أن حاجتنا للوعي الثقافي في لحظتنا الراهنة تلك، أكثر من رغبتنا بها في كل المراحل الزمنية التي عاشتها هذه البلاد المباركة، بحيث يتزامن هذا الوعي مع النقلة التحديثية الجديدة التي باركتها بشجاعة وصدق قرارات رسمية من ولاة الأمر، كما أن شبابنا -وهم النسبة الأكبر في مجتمعنا- تتقاذفهم البطالة التي تقودهم إلى مهاوي الجريمة، والخواء الفكري الذي شجع قادة التطرف الديني الجهادي، لتلقف صفحاتهم الرقيقة البيضاء، ليكتبوا فيها ما يهددون ويتوعدون ويعلنون، بحبر الدم المسفوح من الرقاب الآمنة، والفراغ التعليمي التربوي الذي جعل منهم نماذج مفعمة بالخواء والضحالة والعجز عن استيعاب معارف العصر ونداءات الحضارة!

إذا فإن لنداءات هذا النثار ما يبررها، ولعلي أختزل أبرز تجلياتها في النقاط الآتية:

-1 الثقافة التي نحتاجها هي المعطى النظري لأهم مؤطرات العلوم والمعارف والفلسفات التي صاغت الزمن الجديد بمفرداتها وغاياتها وتأثيراتها على البنى الاجتماعية، التي تستطيع من خلال تلك المؤطرات القبض على الشواهد الحقيقية للحق والخير والجمال، مما يسمو بتلك البنى الاجتماعية إلى الآفاق الأكثر سموا من حدود الغايات الغريزية المحدودة، والتأويلات النفعية الضيقة، والوعي بالكون على أساس الأيديولوجيا في شكلها «الواحدي» النمطي!

-2 نحتاج أن تتجاوز هذه الثقافة النخب «التي لا تهش أو تنش» للمجتمع كله مدنه وقراه. ما الفائدة من ثقافة نمطية تطرح في غرفة -أو حتى قاعة- ضيقة بوجود عشرين أو حتى ثلاثين مشاركا «في أحسن الحالات»، والمدينة تغرق في جهل مقيت وجاهلية جديدة؟ ولعل السبل إلى ذلك كثيرة، ومنها الشراكة مع المؤسسات التعليمية والاجتماعية في المشاركة بالفعاليات الثقافية.. الدعاية والإعلان «المجتمع لا يعرف موقع الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة حتى الآن».. التغلغل بمؤثرات الثقافة في نسيج المجتمع من خلال خطط متقنة «تخيل لو تغلغلت الثقافة في مجتمعنا، كما تغلغل الفكر الصحوي المتطرف، بوصاية جادة ومحترفة من قادة هذا الفكر!؟».

-3 إعطاء الفرصة في الفعل الثقافي لفاعلين آخرين، غير الذين ما زالوا يجترون ثقافة، لم تتعد أسماعنا إلى وعينا الكلي، المؤثر في مجالات التطبيقات الثقافية المنتجة الحضارية، خاصة أن هؤلاء الفاعلين المهيمنين لا يريدون أحدا يشاركهم «الثقافة»، وقد ذكرت في نثار سابق أن ثمة قائمتين «ذهبية وفضية» لا تتجاوز العشرين، ما بين ناقد ومفكر ومبدع، هم المكلفون بالنهوض بأعباء جميع فعاليات الثقافة «بتبادل الأدوار فيما بينهم.. فذلك ناقد لشاعر في أمسية، وفي أمسية أخرى يتبادلان ذاتهما الدورين»، وسميت أصحابها بالأسماء! إذا كيف تنهض ثقافة بعشرين فردا؟ ثم كيف تضطلع هذه الثقافة بدورها المعرفي الحاسم.. بهم؟

-4 المعيار الذي تم فيه انتخاب قادة المؤسسات الثقافية في التشكيل الجديد، هو حجم تأثير المنتخب في الإطار العملي الوظيفي الذي يمثله «العالم الأكاديمي غالبا»، فجاء إلى سدة الأندية والجمعيات الثقافية أساتذة أكاديميون «من ذوي الوجاهة والشعبية»، والذين لا يحملون همّ الثقافة على محمل الجد، ولم يمارسوا بفعالية أيا من تصنيفات الأدب أو النقد أو المعرفة الفلسفية لهما، ولم يكونوا -يوما- على قرب من الذين يتعاطون أجناس الثقافة بوجعها اللذيذ في أماكن اللقاءات ذات الحنين..

فكان من الصعب أن يتحمل هؤلاء الأساتذة المنتخبون «بالتشريف وللتشريف» عبء إدارة إنتاج الثقافة في المجتمع، فضلا عن إنتاج ثقافة مغايرة زاخرة بالتحولات المستحبة في كل مرة! ولذلك فإن الهشاشة التي ترى تلك القيادات نفسها عليها -إذ الإنسان لا يمكن أن يكذب على نفسه- تجعل ظهور مثقف حقيقي في الأفق القريب تهديدا يكشف المستور، فلا مناص حينئذ من مواجهة كل من تسول له نفسه الاقتراب باللامبالاة أو الصد المباشر «لديّ من الدلائل ما يؤكد على ذلك التفاعل الموتور والمتأزم بين أصحاب الثقافة الخالصة وتلك القيادات الطاردة»، وبالتالي فإن استمرار هذا الوضع البيروقراطي النمطي، يجعل ترقب مخرجات عمل المؤسسات الثقافية ضربا من الاستحالة والعبث.

-5 أهمية انسجام خطاب الثقافة ببقية خطاباتنا المحلية: الدينية والتعليمية والاجتماعية، مع الوعي بأن خطاب الثقافة في الأمم الناهضة هو الخطاب المهيمن الذي يتكفل بصياغة بقية الخطابات، بطريقة صحيحة ومنتجة (إذ الملاحظ لدينا: أن ما ينتج من خطاب الثقافة أحيانا، يحرمه الخطاب الديني، وما يفرزه الخطاب التعليمي لا يتسق في حالات كثيرة مع شروط العلم والمعرفة الخلاقة في الخطاب الثقافي العام.. وهكذا)!