قابلني بوجه تكسوه مسحة من الغضب الحارق والمستفز، تكلم بنبرة كادت تسقط فكه على ركبتيه، وقال: «أشغلتمونا بسيرة القط» وطقسه الأنثوي، رغم أنه لا يشكل في المنظومة المعرفية المحلية إلا قدرا يسيرا من قصة الإنسان مع الأرض والحياة، إنكم تختزلون شساعة ومعطيات كل ما صنعه العقل الجمعي وذكاؤه الفطري في هذا المبحث، وتلك المتواليات من الخطوط والحفر اللوني على الجدران الطينية، متغافلين عن روافد وتعاليات من الموروث التراكمي العابر للعصور والأزمنة المتعاظمة، مما يستدعي المماهاة وتمجيد تلك الحواضن والمكونات من المنتوج البشري الهائل، أنا لست ضد إشاعة وانتصار هذا الفن، وإدراجه في القائمة التمثيلية الخاصة بالتراث الثقافي غير المادي، لدى المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة «اليونيسكو»، ولكني ضد طغيان حضوره والإسراف في تسييده وتدويله وتمكيثه، ليكون العنوان العريض لموروث حضارة تاريخية واجتماعية وحياتية في «عسير»، وسلب مخزون الذاكرة مما أعجزها عن الالتفات إلى آثار الاستيطان القديم من الرسوم والنقوش، والكتابات الصخرية، والطرق التجارية، وطرق ما قبل الإسلام كطريق «الفيل» والعمارة التقليدية وأنماطها السكنية، كحضارة وادي «عياء» والاحتشاد الضمني لدراسة وقراءة التمثلات الدلالية للحصون والقصور التراثية، والقصبات والقلاع، والقرى الأثرية، والمناجم وآثار التعدين، والأسواق التجارية القديمة كسوق «حباشة» والمدن الأثرية كمدينة «الجهوة» في النماص، ومدينة «جرش» في أحد رفيدة، والحضارات المطمورة، والمساجد التاريخية منذ فجر الإسلام، والموروث القولي والفعلي، والالتفات إلى نمط آخر من الزخرفة على النوافذ والأبواب والأعمدة والتيجان والسواري كما في بلقرن، وغير هذا كثير مما يحويه باطن وظاهر هذه الأرض الكريمة.

قلت له: كل ما قلته يستقيم مع العقل والمنطق، ولكن هذا الفن «القط» لم يكن يشكل ثقافة بصرية بيئية فقط، ولكنه بوح إنساني وتعبير عفوي، واستجابة متألقة لحياة شعب وطبيعة تفكيره، ومزاجه الخاص والحي والمتناغم مع متاحات جغرافيته الملهمة، وموحياتها المنفتحة المؤدية لوظيفتها الجمالية والتذوقية، ومتعة المهارة وشحذ الخيال، لقد نهضت المرأة بذلك الدور التلقائي، لتصنع ذلك المنتج التطبيقي والزخرفي والتشكيلي، المتعاضد مع الفلسفة المعمارية وأصولها المبتكرة، صنعته من خلال خيال رحب، وتأمل عميق وابتكار متجاوز، بطريقة سلسة وحدس إبداعي، مما أهلها لتفرض عبقريتها، وليكون إنجازا عالميا سعوديا، حاضرا في المجتمع الدولي، مدرجا ضمن الفنون العالمية، وليحتفظ بمكانه ومكانته في الذاكرة الحية، كجذر تاريخي يؤكد الوجود والتفرد والأصالة لهذا الشعب، ويجسد ما يتمتع به مجتمعنا المحلي من حس إبداعي، وما يختزنه من مدونات يندر وجودها على المستوى الإقليمي والعالمي، ولذا علينا السعي إلى صون التراث والحفاظ عليه من المهددات والتحديات، وترميم ما انحسر منه، وإشاعة قيمته وحضوره، من خلال منهجية إجرائية تكفل الحفاظ عليه، ورعايته من تقلبات العصور وجبروت الحضارة المعاصرة.