يقول أحدهم: «أسمعني غناءك كي أتلامس مع روحك». «محمد عبده» نصف قرن من الشدو الأنيق، وسلطنة الطرب، وطلاوة الحس، والحضور الآسر، صوته شبابة في شفة الريح، يذوب في الأسماع كما تذوب قطعة الثلج في الماء الحار، وكما تنسرب قطرة الندى بين حبق السواقي، قدّمَ النفائس والروائع من غناء الوجدان الدافئ، وأفراح الوطن الباذخ، وصباحات الأرض المنصورة، تحولت حنجرته إلى مخابئ للبوح والأطياب وأسراب الشموع، وحكايا العاشقين، كان يدخر صوته للجمال المهذب والمترع بالدهشة والنسمات الطرية.

و«لكن»، اتسع حزني وانكسر خاطري وأنا أتابع مطرب العرب في ذلك المساء «الأبهاوي» خلال الشاشة، وهو يستدرج حنجرته لعلها تسعفه فتعود إلى سابق عصرها وجموحها، ورغد سحرها، وأماسي مجدها، ولكنها خذلته وأربكته، رغم محاولاته ترويضها والهيمنة على نبراتها وتخفيف عنادها، للخروج بأقل الأضرار، لا أعرف تفسيرا لذلك المشهد، ولا أملك تبريرا يليق بروح اللحظة، هل هي غلطة الوقت، أم عربات الزمن التي لا ترحم، أم مزاجية فارس الأمسية، ووقوعه فريسة للمستهلك من الغناء المكرور والمتداول، أم إجهاد الليالي وعصف الأيام؟

جمهوره وفيٌّ وصادق حد الإعجاب، ولكن «البعض» منهم انتهك تقاليد المسرح الغنائي، بما فيه من التزام يعكس مستواه الفكري وتفاعله الواعي، والقدرة على الإنصات والإصغاء والمتابعة، فكان الصراخ والضوضاء والتشوهات سيد الموقف، زاد عليها إصرار مذيع الحفل وطلبه المستهجن من الجمهور الوقوف في منتصف الأمسية، وإشعال عدسات الجوال المضيئة بأسلوب مدرسي فجّ، كانت هناك لحظات توقف ليتها استثمرت بعرض شعبي، أو تقديم موهبة تتلمس طريقها.

صديقي العزيز «محمد عبده»، انتظرت ذكاءك الذي خانك، حين لم تقدّم لوحة واحدة تهديها لمن غرسوا أرواحهم في عروة الأرض، وخلعوا على التاريخ رايات الشموخ والعزة والفداء، وسجلوا على عروق الجبال أعراس البطولة والتضحية والانتصار في «الحد الجنوبي» قلت لك: إن أمسية «أبها» للنسيان، وعلى جمهورك ألا ينساق خلف عواطفه، فيطالب بقطع رأسي، وسلخ جلدي، وخلع ما بقي من أسناني، بعد قراءة هذا المقال، وعلينا أن نؤمن أن للعمر تعاليات لا تخلد، وضرورات وتحولات قسرية مستبدة، تدق بمساميرها في دواخلنا، لتشعرنا أن الاكتمال الإنساني ضرب من المستحيل، والتحصن ضد المتغيرات الحياتية وَهْمٌ كبير، والرضوخ لعوارض سلطة الديمومة طبيعة عقلانية شجاعة، لا أخفيك يا صديقي أني شعرت بالغبن والضيق والإحباط، وأنا أرى تلك الحشود الضخمة تحتل مسرح «المفتاحة» محتفية بك، بينما عجزنا نحن أهل «الثقافة» بكل مؤسساتنا واحتفالياتنا وبرامجنا ودعاياتنا، عجزنا أن نجمع «رهطا» من البشر، والرهط في اللغة الجماعة دون العشرة، كي يشرفونا بحضورهم ويسعدونا بمشاركتهم في مناسباتنا البائسة، ومحاضراتنا العقيمة، وقد يقول قائل: «بائسة وعقيمة» فكيف تريد منا الحضور؟ هذه بضاعتنا يا سيدي، وليت محمد عبده غنى لنا من باب جبر الخواطر وتسلية الموجوعين، «يا ضايق الصدر بالله وسع الخاطر....دنياك يا زين ما تستاهل الضيقة».