سبق لي أن زرت إيران مرتين، عامي 2002 و2003، وذلك عضوا في وفد إحدى الشركات الوطنية الكبرى التي كنت وقتها أعمل لصالحها مستشارا إعلاميا.

وكانت الزيارة بالنسبة لي فرصة سانحة للتعرف على هذه الدولة التي كان لها -ولسنوات كثيرة- عداء متجدد لم أكن بالضرورة أفهم طبيعته وتعقيداته، وهو الأمر الذي قادني وربما لسذاجة تحليلي قصر إدراكي حينها، إلى إرجاع العداء تجاه هذه الدولة لسيناريوهات تعتمد على نظريات المؤامرة أكثر من كونها تعتمد على وقائع تاريخية وشواهد حية.

تجربة مريرة مرت بها كثير من الدول، كنا نحن كمتابعين بسطاء لا نعيها بالشكل الصحيح.

على الرغم من استنتاجاتي الخاطئة في ذلك الوقت، إلا أن ما شاهدته في عاصمة دولة الملالي ما زال راسخا في ذهني، ولكن وفق رؤية أكثر واقعية تجرد من التفسيرات الماورائية والنظرة القاصرة للأمور.

فاليوم، حيث تعيش إيران حالة من الفوران الشعبي، والذي قد يشكك فيه أتباع طهران على أسس الاصطفاف والتأييد لنظام خارج عن سياق الزمن والشرعية الدولية.

أقول، إن الشعب الذي شاهدت وتعاملت معه بحكم عملي الإعلامي، لا يشبه إطلاقا النظام الذي يحكمه، بل هو الوجه الحقيقي للشعب الذي شاهدته عبر وسائل الإعلام يخرج ويندد بالخامنئي وزمرته.

الشعب الإيراني -وعلى العكس مما قد يتصور كثيرون- هو شعب منفتح جدا، يعشق الحياة ويرفض الوصاية، رغم ما ألمّ به لعقود، شعب يهوى التعلم حتى أني لم أقابل أي فرد هناك لا يتحدث أي من اللغات العالمية، كالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، وهنا لا أقصد فقط الأشخاص الذين تعاملت معهم مهنيا بل حتى من صادفتهم في الأماكن العامة، خصوصا من جيل الشباب من الجنسين، والذين كانوا يقضون أوقات فراغهم بالطريقة ذاتها التي يقضي بها كل شباب الشعوب المحبة للحياة والمفعمة انفتاحا وتجددا.

اليوم، تعيش إيران حالة من التمرد الشعبي على نظام أكل عليه الزمان وشرب، والإيراني البسيط كما المتعلم، لم يعد يستطيع أن يمضي في بلد يحكمه نظام رجعي يقوده ثلة من الملالي الذين يريدون ببلادهم والبلاد المحيطة بهم، أن تعود إلى واقع حكم الطوائف وهيمنة العرق الآري على محيط ميزه الله بالتنوع العرقي والطائفي، فقد أصبح ماثلا وواضحا لهم أن هذا النظام لم يعد قادر أن يمضي ببلادهم نحو التنمية والازدهار، وأن سياسته الوحيدة في الحكم مبنية على العداء وتصدير الإرهاب وإشعال الحروب والقلاقل، فبدلا من أن يكون هَمُّ الحكام في طهران هو بناء البلاد أصبح هاجسهم الوحيد هو هدم أوطان الآخرين، وتدنيس أراضيهم بالعملاء والمندسين، وإبقاء بلاهم في عصور الظلام.

في واشنطن، حيث أُقيم الآن وبحكم متابعتي للشأن السياسي البحثي، أتيحت لي الفرصة أن أتعرف عن قرب على واقع المعارضة الإيرانية في أميركا التي تتميز بشكل أساسي بالتنوع العرقي والطائفي والفكري، ورغم وجود خلافات فلسفية في مشروع إيران المستقبل، إلا أن جميعهم متفقون على أن إسقاط النظام القائم هو الحل، واستبداله بنظام علماني يكفل لجميع شرائح المجتمع الحق في الازدهار والتعبير عن الرأي، والحكم والمساواة والمساءلة هو الحل الوحيد لإدارة بلاد يتعطش أبناؤها إلى الحرية والانفتاح على العالم والسلام معه.

أكاد أجزم أن غالبية المواطنين الإيرانيين في الداخل الإيراني اليوم، هم نسخ من هؤلاء الذين قابلتهم في طرقات وبزارات أروقة مجمع المؤتمرات في طهران قبل 15 عاما، إن لم يكونوا أكثر انفتاحا وطلبا للمدنية.

فالتظاهرات التي اجتاحت المدن يقودها جيل تربى على منصات التواصل الاجتماعي، رغم الرقابة والحظر عليها، وتلقف من هنا وهناك أخبار التنمية والتطور في دول الجوار، والتي لا تقل إيران عنها غنى وحضارة، فالشعب الذي يشعر بالغبن والانكسار لا بد له أن يفيق في يوم، واليوم وقد أصبحنا في قرية كبيرة ثورة الشارع الإيراني أمر طبيعي ومتوقع.

كنت أعتقد في مرحلة ما قبل النضوج الفكري، أن العداء لإيران كان بسبب تفسيرات خصومها العقائدية من اليمين ومن اليسار، حتى كشفت لي التجربة والتمعن والتفكير المتجرد من تأثيرات الغيبيات أن الصورة معكوسة، فحكام إيران هم من يعادون العالم وفق تفسيراتهم وقناعاتهم العقائدية، فتصدير ثورتهم ودعمهم الإرهاب دليلان قاطعان على ذلك، والعالم هو من دفع ثمن تهور وظلم هذا النظام الرجعي.

ثورة الشعب الإيراني على ثورتهم الشؤم بدأت، وعلى العالم كله أن يقف داعما لإسقاط نظام رأسماله الإرهاب وتصديره.