يعجب المرء - أشد العجب - عندما يقرأ ما يغرد به الطائر الأزرق لنخبة من الأسماء التي تنتمي بشكل أو بآخر للمشهد الثقافي المحلي، خاصة وأن لبعضهم إنتاجا تأليفيا رصينا، أو لأن لبعضهم قربا مباشرا وعلاقات زمنية ومعرفية بموضوع النصوص التي يغردون بها في سياقات ثقافية أخرى! وبعد أن يعجب المرء يمعن في التساؤلات الذاتية التي تحاول مقاربة ذلك المشهد: ما الذي «يحوج» هؤلاء إلى كتابة ذلك الطرح «التويتري» في كل حين؟! هل ثمة «نقص» لا يزال في ذهنيتهم وفي شخصياتهم عامة يريدون ملأه بما يتوقعون أنه ينسجم مع شواهد المعرفة ومراحل الأدب ونظريات النقد، فتنكشف بساطتهم الثقافية وركودهم المعرفي للمتلقي العادي والنخبوي سواء! وهل أن ذلك الطرح الأزرق يكشف حقيقة هؤلاء، على هذا النحو الفاضح تأكيدا واستدلالا، ما دام أنه ينتج باستمرار، ويصدر من ذواتهم الداخلية بكل تأكيد وطبيعية وتلقائية وصدق؟! وبالتالي فإن فضاءات الطائر الأزرق تكون غالبا بمثابة الأفخاخ التي بدلا من أن يسمو إليها المثقف والمفكر والأديب، نجده يسقط في أسفل الدرك، فيكون ذلك السقوط مريرا ومدويا لأنه يحدث أمام عيون الناس.. كل الناس..! وربما أقتنص في هذا النثار بعضا من تلك «التغريدات» لأقارب معها مبررات سقوطها المعرفي والتواصلي الفج:

«1» هو أستاذ مشارك بتخصص اللغويات في جامعة أم القرى، كتب في العديد من صحفنا المحلية ابتداء من عكاظ فالمدينة ثم مكة، تربطه علاقات ثقافية مع نخبة من الإعلاميين والأدباء، كان له حضور بارز في إطلالته الأولى على المشهد المحلي، من خلال اللقاءات الثقافية المباشرة والكتابة الصحفية «وفي تويتر كذلك»، ولكن لم يلبث أن استنفد كل طاقاته واستهلك كينونته الثقافية بعد فترة بسيطة، وهو لا يعلم تلك الحقيقة «المرة» خاصة عندما يقرأ كل يوم الردود والتفاعلات من المقربين إليه وأصدقاء مجلسه الليلي وتلامذته على ما يكتبه من «تغريدات»..

ولكن المتابع الدقيق والمحايد يعرف أن الرجل استمر في أن يقول في كل مناسبة وممارسة ولكنه «مع ذلك لا يقول شيئا»، وكأنه حال الشاعر الذي يقول: «كأننا والماء من حولنا.. قوم جلوس حولهم ماء»، لتصبح كل تغريداته على شاكلة: «مشكلة المجنون هي أنه يرى أنك أنت المجنون وهو العاقل، وقس على ذلك الجاهل والمتخلف والمتطرف والأحمق والعنصري».. وهل ثمة مشكلة للمجنون «ومعه الجاهل والمتطرف والعنصري».. غير تلك المشكلة منذ أن عرفنا في حياتنا الجنون والتطرف والجهل والعنصرية؟!

وربما لو سألت صبيا في مرحلة دراسته الابتدائية عن مشكلة صديق له تملكه الجهل حتى استولى على ذهنه تماما، لقال إن مشكلة صديقي أنه لا يسمع ما أقوله له، فهو مقتنع بما لديه، زاهد فيما عندي له من نصائح عقلية متزنة! إذاً.. ما الفرق بين ذلك الصبي الصغير في مرحلة دراسته الأولى وصاحبنا الأستاذ المشارك في الجامعة والأكاديمي الفذ في التخصص العلمي النادر، ما دام أنهما يقولان القول ذاته ويفكران بالرؤية البسيطة ذاتها؟ فيكون الجواب الفاضح: «لا فرق!».. وهكذا تستمر بقية تغريدات دكتور اللغويات المبجل!

«2» أستاذ أكاديمي بارز.. من رواد الرواية المحلية الحديثة منذ روايته الثلاثية قبل عقدين من الزمن، ومن أبرز من ينتمي إلى الثقافة في سياقها الفكري عبر سلسلة من المؤلفات الجادة، بدءا من «الحركات الثورية» عام 1986 وإلى «السياسة بين الحلال والحرام» عام 2010، إضافة إلى موقعه الأثير بين كتاب المقالة المحلية.. هذا ما عرفناه باعتزاز عن ذلك المثقف «الحر»، كما عرفناه ونحن نستمع إلى محاضراته وندواته وحواراته الممنهجة الشيقة الرصينة.. ولكن «الأستاذ» يظهر لنا في فضاء الطائر الأزرق بمعطيات معرفية غاية في البساطة والابتذال والتسطيح «فلا يكون له بعدها أدنى تبرير، حتى لو افترضنا اتخاذه من الفضاء الأزرق وسيلة للتواصل مع عامة الناس وليس مع النخب وأهل المعرفة»، لأن الأفكار التي سبق أن تناولها وقاربها في كتبه ومحاضراته كانت أكثر فكرا وتعقيدا وعلمية ومنهجية و«احترافية» من أفكاره في «تويتر» في سياق الموضوع الواحد ذاته!

لا بد أنكم تتذكرون معظم أو بعض ما طرحه أستاذنا عن علاقة بعض الوعاظ بالخرافة لتحقيق مكاسب نفعية في كتبه ورواياته معا، واقرأوا معي اللحظة أنموذجا على طرحه «الأزرق» في الموضوع ذاته: «بعض الوعاظ ينشرون الخرافة باسم الدين على أنها من المعجزات، وهم يعلمون علم اليقين ألا أصل لها في الدين، فإذا عبرت كانت خيرا وبركة، وإن انتقدت كان التراجع عنها. مثل هؤلاء يخدعون الجماهير ويتاجرون بالدين..ليس إلا!».

 يعني.. أي هدف من أي نوع أراد مفكرنا تحقيقه في تلك التغريدة البائسة؟ هل هو لا يدري أن الجميع بات يدري عن مضمون ما يقول «وزيادة»؟! هل كتب التغريدة في سياق ما يخول له كتابتها ونشرها؟، ولكن المؤكد أن السياق منفرد، ولا أثر لحوارية ما هناك..! كذلك، فإن معظم التغريدات تأتي على نفس طريقة تغريدة «الوعاظ» في سذاجتها وخوائها وابتذالها! لطالما كنت أسائل نفسي، كيف تكون لغة وأفكار أستاذنا في مؤلف جديد يأتي بعد المرحلة الزرقاء الموتورة؟!

«3» شاعرة ذات تجربة فنية فذة في عروس المصايف، لها العديد من المشاركات الجيدة في الأمسيات الشعرية هنا وهناك، كما أنها تستعد للانتهاء من بحثها لدرجة الدكتوراه في «الشعر الحديث».. هذه الشاعرة والباحثة لو أنها سخرت فضاءها الأزرق لأجمل نصوصها الشعرية فقط لكان في الأمر سعة وقبول، ما دام أن حديثها عن «الشعر» يحمل الكثير من المغالطات الفاضحة والقفز على المراحل بعشوائية مفرطة، لا أثر فيها لقراءة فاحصة أو لدراسة شعرية حقيقية، ولا حتى لفهم حقيقي خالص للمكون الشعري وتراتبيته وتقنياته وشؤونه كلها..

تغرد هذه الشاعرة فلا تقول شيئا صحيحا وهي تقول: «لم تعد القصيدة الحديثة تقدم للقارئ أفكارا جاهزة شأن القصيدة القديمة، وإنما أصبحت تقدم حالة أو فضاء من الأخيلة والصور ومن الانفعالات وتداعياتها، لم تعد تنطلق من موقف عقلي واضح وجاهز ولكن انطلاقاتها تأتي من مناخ انفعالي يسمى تجربة أو رؤيا»!

القصيدة الحديثة التي تحدثت عنها شاعرتنا الباحثة هي قصيدة قديمة أيضا، وهي القصيدة التي كتبت في أوروبا منذ 200 عام، وفي أدبنا العربي منذ 60 عاما، القصيدة الحديثة «الحقيقية» هي التي تجاوزت «كل» هذا التحديث المزعوم في سياق التغريدة «الاتكاء على الصور والانفعالات والرؤيا» للعودة إلى النسق الواقعي في اللغة وفي الدلالة، بعد أن يجد شاعرها في البقاء على طبيعته الشعورية واللغوية، لاستحضار تداعيات واقع حقيقي قلق ومتناقض ومجرد من المعنى باستخدام مفردات الحياة اليومية البسيطة «ليس إلا»! ثم هل «التجربة» هي «الرؤيا» كما تقول الشاعرة؟ أم أنها في الحقيقة ضدها ونقيضها!!

(كلام كثير حول تلك المفاجآت والمغالطات، تقصر المساحة الممكنة عن شرحه، مؤجلا إياه إلى لقاء قريب بإذن الله).