يطلق على الموازنة العامة تجاوزاً في مجال الممارسة العملية بالمملكة مصطلح "الميزانية العامة"، والأصح هو مصطلح "الموازنة" لأنها تعكس بيانات تقديرية في طبيعتها ولا تعكس عمليات تبادل فعلية.
وبغض النظر عن الإجراءات التي يتم من خلالها إعداد مشاريع الموازنات بمعرفة الوزارات والمؤسسات العامة، إلا أني سوف أتحدث عن ما يجري بالتحديد في بعض الجهات الحكومية خلال تقدير هذه الموازنات.
فمن المعلوم أن إعداد خطط التنمية يرتبط بشكل مباشر بالناحية المالية، فكل وزارة حكومية تضع خططها الاستراتيجية في فترة زمنية تصل إلى خمس سنوات مقبلة، وعلى ضوئها يتم تقدير التكاليف المالية اللازمة لتحقيق أهداف الخطة الاستراتيجية، إلا أنه في الواقع العملي نجد هناك تفاوتا كبيرا بين هذه الاعتمادات وبين ما هو مخطط له وما تم تقديره من تكاليف مالية، حتى إن هذه الخطط قد لا نرى لها أي واقع ملموس بشكل فعلي في بعض الجهات الحكومية، وقد يكون السبب في ذلك حسب بعض الدراسات والبحوث في هذا الشأن إلى مقاومة بعض من متخذي القرار للخطط باعتبار أنها تمثل بالنسبة لهم قيوداً يمكن على أساسها أن تتم محاسبتهم ومساءلتهم في نهاية الفترة الزمنية للخطة، لذا فإنهم يقاومون الخطط أشد المقاومة وذلك بما يجعلهم في منأى عن المساءلة والمحاسبة، كما يسهل لهم في الوقت نفسه فرص طرح خططهم وأولوياتهم التي قد تخدم مصالح الأجهزة التي يعملون بها فقط، أو تكون لمصالح شخصية.
ويشير أحد الباحثين إلى أن كثيرا من الأجهزة الحكومية لا تتردد في تقديم خططها على أساس مراجعة خطط السنوات السابقة وإدخال ما يمكن إدخاله من تعديلات بسيطة شكلية على هذه الخطط إرضاءً لمتطلبات أجهزة التخطيط المركزية والشعور بعمل الروتين السنوي في هذا المجال.
والأسباب السابقة تؤثر بشكل سلبي على تحقيق أهداف خطة التنمية التاسعة وعدم الاستفادة من الاعتمادات المالية الضخمة التي قدرتها الموازنة العامة للعام المالي 1432/ 1433هـ.
وهذا ما يحدث بالتحديد في بعض الجهات الحكومية في جانب التخطيط، أما بالنسبة لعملية تقدير الاعتمادات والمخصصات المالية، ففي ظل غياب معايير وأسس محاسبة التكاليف فإن عملية تقدير المخصصات تتم من خلال المساومة بين وزارة المالية والجهات الحكومية الأخرى حسب قوة كل جهة في المساومة وعليه تقوم الجهات بزيادة تقديرات تكاليف البنود والمشروعات آخذين في الاعتبار أن وزارة المالية سوف تخفضها، هذه من ناحية. ومن ناحية أخرى نجد نفس هذه المساومة داخل الجهة الحكومية نفسها وذلك عن طريق توزيع المخصصات والاعتمادات المالية للفروع أو الإدارات، أو أنها تفرض على هذه الفروع دون وجود معايير أو أسس علمية، وهذا ما أثّر بالفعل على أهداف تحقيق التنمية المتوازنة بين المناطق.
وتأسيساً على ما تقدم، فإني أرى أن يتم اتخاذ خطوات جادة من قبل الوزارات والجهات الحكومية نفسها، وأيضاً من قبل وزارة التخطيط ووزارة المالية وديوان المراقبة العامة ومجلس الشورى نحو تحقيق أهداف خطط التنمية والاستفادة القصوى من الاعتمادات المالية المخصصة لتحقيقها.
أما الكيفية لتحقيق ذلك فأصوغ المثال التالي حتى تتضح الصورة أكثر فمن المعلوم أن خطة التنمية التاسعة تضمنت في أحد أهدافها للقطاع الصحي تحقيق أفضل مستوى صحي ممكن عن طريق تحسين الحالة الصحية للسكان، وتوفير الرعاية الصحية الشاملة المتكاملة لجميع السكان وتيسير الحصول عليها وتقديمها بطريقة عادلة وجيدة ومأمونة وبتكلفة معقولة، لذلك تم وضع أهداف تفصيلية مثل بناء عدد من المستشفيات وزيادة عدد الأسرّة ومراكز الرعاية الصحية...الخ .
وبناءً عليه تضمنت الموازنة العامة للعام المالي 1432/ 1433هـ، مشاريع صحية جديدة لاستكمال إنشاء وتجهيز مراكز الرعاية الصحية الأولية بجميع مناطق المملكة ومشاريع لإنشاء (12) مستشفى جديدا ومشاريع لإحلال وتطوير البنية التحتية لـ(4) مستشفيات إضافة إلى استكمال تأثيث وتجهيز عدد من المرافق الصحية، ويجري حالياً تنفيذ (120) مستشفى جديدا بمناطق المملكة بطاقة سريرية تبلغ حوالي (26,700) سرير، وبالتالي يستلزم الأمر التحقق في نهاية السنة المالية من تنفيذ ما تم التخطيط له وما تم اعتماده من مخصصات مالية، وفي نهاية الفترة الزمنية المحددة لخطة التنمية وهي خمس سنوات، يتم المقارنة بين عدد المستشفيات والأسرّة الفعلية مع الخطة وتحديد نسبة الانحرافات إن وجدت وتوضيح أسبابها.
وهذا ما ينطبق أيضاً على باقي القطاعات الأخرى، مثل التعليم، المياه، الزراعة، تنمية القوى العاملة الوطنية،...الخ.
وبآلية بسيطة وفي الوقت الحاضر يمكن مقارنة البيانات التي تضمنتها خطة التنمية التاسعة لأي قطاع، مع بيانات خطة التنمية الثامنة وتحديد الفروقات والانحرافات، عندها سوف نعرف ما هي المشكلة بالتحديد؟! ومن ثم تبدأ المحاسبة والمساءلة.