ما زال الخلل في التركيبة السكانية يعتبر أحد التحديات الوطنية الهامة التي تواجه مشاريع التنمية المختلفة وبرامجها المتعددة المتصلة بتحقيق رؤية 2030، وبما تتضمنه من تنمية شاملة تستهدف الموارد البشرية والطبيعية والمادية المختلفة لجميع المناطق الثلاث عشرة التي تحتضنها المملكة تحت مظلتها الوطنية، ويعكس واقع التركيبة السكانية للوطن بصفة العموم، ولكل منطقة على حدة؛ طبيعة الخلل السكاني في جميع مكوناته التي تتضمن حجم السكان (عددهم) ونسبة نموهم، والنوع (الجنس)، والعمر، والجنسية، ونسبة المشاركة في قوة العمل، وحركة السكان (الهجرة) المتعلقة بنسبة النمو السكاني في المدن والريف؛ وإن الخلل في توزيع جميع تلك الخصائص السكانية يلقي بظلاله على مسيرة التنمية ومستوى منجزاتها كما يؤثر على حجم ونوع الفرص المتاحة للمواطنين في المناطق المختلفة.

ونظرا لتعدد جوانب الخلل السكاني بخصائصه المتعددة؛ فإنه لا يمكننا التعرض لها جميعها في تلك المساحة المحدودة، كما لا يمكننا مناقشة إحدى الخصائص بصفة متكاملة تغطي جميع المناطق، وعليه فسنتعرض لأهم المناطق الرئيسة الأولى

في المملكة فيما يتصل بتوزيع السكان من حيث الحجم (العدد) والجنسية (سعودي/‏‏غير سعودي)، لما لذلك من أهمية بالغة في التأثير على الجانب الأمني والتنموي على وجه الخصوص.

يشير المسح الإحصائي للخصائص السكانية لعام 2017 إلى أن نسبة غير السعوديين تشكل 37.30%من حجم السكان في المملكة والبالغ عددهم 32.553.36 مليون نسمة، وتُعد تلك النسبة مرتفعة جداً على مستوى جميع

دول العالم، باستثناء دول مجلس التعاون التي تتقارب معنا في تلك النسب من الخلل في التركيبة السكانية حسب الجنسية، وعلى الرغم من ارتفاع تلك النسبة على مستوى المملكة، فهي أكبر من ذلك على مستوى المناطق خاصة الرئيسة منها، والتي تمثلها ثلاث مناطق رئيسة في المملكة تستحوذ وحدها على 66.57%من جملة سكان المملكة، وهي منطقة الرياض، ومنطقة مكة المكرمة، والمنطقة الشرقية، ويمثل غير السعوديين في تلك المناطق مجتمعة 77.06% من نسبة غير السعوديين في المملكة.

وحتى تتضح طبيعة الخلل المستهدف على مستوى المناطق؛ فإن الإحصاءات تشير إلى أن منطقة الرياض تستأثر وحدها بنسبة 25.24% من جملة سكان المملكة، ويشكل غير السعوديين من جملة سكان منطقة الرياض 43.30%، بينما تأتي منطقة مكة لتتصدر مناطق المملكة في حجم السكان بنسبة 26.28% من جملة سكان المملكة، ويمثل فيها غير السعوديين نسبة 47.22% من جملة سكان منطقة مكة المكرمة، وتأتي المنطقة الشرقية في المرتبة الثالثة من حيث عدد السكان في المملكة وذلك بنسبة 15.05% من جملة سكان المملكة، ويمثل فيها غير السعوديين نسبة 35.91% من جملة سكان المنطقة الشرقية.

ومما لا يخفى علينا التأثير السلبي لارتفاع نسبة السكان بصفة عامة في المناطق الرئيسة، علاوة على ارتفاع نسبة غير المواطنين فيها، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة بين المناطق، إذ تنخفض تلك النسبة في المناطق الأقل سكاناً؛ إلا أن ذلك الخلل ينعكس سلباً على جوانب أخرى، ذات علاقة بالصعيد التنموي والأمني على مستوى الوطن والمناطق جميعها.

ومن البديهيات المعروفة أن ارتفاع الكثافة السكانية نتيجة للازدحام يتولد عنه الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يظهر أثرها وتبعاتها على مستوى جميع الخدمات المتاحة والفرص الوظيفية المتوفرة، وعلى الرغم من انخفاض الكثافة السكانية في المملكة بصفة العموم إلى 16 نسمة (في الكيلو)، وكذلك تنخفض في المناطق المختلفة بسبب وجود مساحات كثيرة من الأراضي التي ما زالت لم تستغل بعد، والذي أدى بدوره إلى استهلاك الأراضي بشكل كبير خاصة في المناطق الرئيسة؛ بما يتعارض مع مبادئ التنمية البيئية المستدامة وأهمية استغلال الأرض بالشكل الأمثل دون إجحاف وتعدٍ على البيئة ومواردها.

وإن الضغط على المدن الرئيسة بالتركز السكاني فيها، وما يتطلبه ذلك من نفقات متنامية ورعاية وصيانة متزايدة ومستمرة للخدمات الأساسية وتطوير دائم لآلياتها وأدواتها، كالنقل والمياه والكهرباء والسكن والصحة والتعليم بمستوياته المختلفة، وغير ذلك من الخدمات التي تتأثر جودتها وأداؤها مع هذا الثقل والضغط الكبير عليها سكانياً، وما يتبع ذلك من متطلبات خدمية تنموية تؤثر على مجمل رفاه سكان المنطقة الإدارية وراحتهم.

ومن جهة أخرى فإن التأثير الأمني وتحدياته كبيرة، ويندرج ذلك على مختلف أنواع المخالفات أو الجرائم المتعلقة بالأمن الوطني للسكان، ومن خلال المتابعة لما ينشر إعلامياً حول ذلك، ولصعوبة تحصيل بيانات رقمية دقيقة وحديثة، فإنه من الملاحظ ارتفاع نسبة الجرائم في المدن الرئيسة بمختلف أنواعها والذي تؤكده دراسات عديدة سابقة؛ حول ارتباط نسبة الجريمة مع ارتفاع نسبة العمالة الوافدة طردياً، وذلك في حد ذاته يعتبر من التحديات الخطيرة والهامة التي تهدد أمن المدن الرئيسة، وذلك مع التنويه إلى جدارة أجهزة أمننا الوطني وتفوقها المتميز بفضل من الله، ثم بتوجيه ومتابعة من القيادة العليا، وذلك يشهد به القاصي قبل الداني، إلا أن ذلك لا يمنع من تعزيز الوسائل التي تخدم الجانب الأمني وراحة السكان والمواطنين عموماً.

ولعل من أهم أسباب ذلك التوسع المدني في المناطق الرئيسة وللمدن الرئيسية بصفة خاصة، هو تركز الأعمال فيها وذلك يشمل القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وذلك يعتبر من أهم أسباب التركز السكاني المتنامي، لا ننكر أنها مدن نمت وامتدت وتوسعت تدريجياً لأهميتها التاريخية والحضارية كمدن رئيسة في المملكة، ومنها تشكل الحيز الوطني في مساحته من الشرق إلى الغرب، ولكن باستدراك التحديات التنموية والأمنية التي نعيشها ومع متطلبات تحقيق الرؤية 2030، فإن ذلك يقتضي انتشار قطاع الأعمال بين المناطق جميعها للحد من المركزية في المناطق الرئيسة، باستحواذها على معظم فرص العمل الهامة والتي تتطلب الهجرة المستمرة إليها من المناطق الأخرى، بالإضافة إلى النزوح من القرى، وما قد يفرضه ذلك أحيانا من إشكاليات اجتماعية تنعكس على تفكك أسري وضغط على وسائل النقل والسكن والتعليم والصحة والخدمات الأخرى، هذا بالإضافة إلى انحسار وضعف إمكانية تنمية موارد المناطق الأخرى المتاحة فيها، سواء كانت سياحية أم دينية أم موارد معدنية وطبيعية وغيرها؛ وعليه فإننا نحتاج إلى تفعيل مضمون مستهدفات خطتنا التنموية وتطلعات رؤية 2030 وبلورة إستراتيجيتها إلى تحول وطني شامل بكل المعايير، ليحتوي جميع أرجاء وطننا الحبيب بما يسهم في استثمار موارده المتنوعة، ويُمكِّن من إتاحة فرص عمل مختلفة في المناطق، تعالج ما نواجهه من تحديات البطالة المتنامية، ومحدودية فرص العمل للشباب وغيرهم، كما تسهم في تصحيح واقع التوزيع السكاني في المملكة بين المناطق.