لعل ما حدث قبل أيام الحج المبارك، بين الرقيب «مشعل بن خلف العتيبي» مع سائق السيارة المخالف في مكة المكرمة، الحدث الذي شكّل هاشتاق «دق على عمتك»، اضطرني إلى أن أتوقف عند ثقافتين نلحظهما كثيرا في حياتنا اليومية.

الثقافة الأولى: يمكن لي عنونتها بثقافة «خذوهم بالصوت لا يغلبوكم»، فبعض الناس يعتقد أنه بهذه الثقافة الخطأ، وعندما يرفع صوته ويستخدم الصراخ في مناقشاته، يستطيع أن ينتصر لحقه ويحصل عليه، وهذه الثقافة نجدها حاضرة في الأماكن العامة، عندما يبدأ مَنْ هذه ثقافته بالصراخ في كل الاتجاهات، ويقلب الحقائق، ويصنّف، ويجيّش ضده، ويلفّق الاتهامات لخصمه، كي يضع محورا جديدا ينطلق خلاله في خلافه مع خصمه وهي سياسة هدفها التشويش على القضية الأصل، بينما هو يعلم في قرارة نفسه، أنه غلطان، وهذه تبدو بارزة في بعض النقاشات التي تخلو من أدبيات الحوار في العمل، في الشارع، في البرامج الحوارية، ونلمسها في التغريدات والكتابات والتعليقات، من أجل «غمط الحق»، حينما يعلم بعضهم ضعف موقفه وأنه خاسر، فيهدف إلى سحب القضية إلى منطقة أخرى، وجرّ كامل الموقف إلى موقف يناسبه، ومن يتبع هذه الثقافة، ينسى أن «الحق يعلو ولا يُعلَى عليه».

الثقافة الأخرى: «ضعف رقابة الذات»، لست أعلم لماذا بعضهم تكون لديه الجرأة في ارتكاب المخالفات «عمدا صمدا»، عندما يرى في لحظة أن الآخرين لا يرونه، بينما لا يبالي إن كان قيامه بارتكاب هذه المخالفة أو ذلك السلوك الخطأ، قد يتنافى مع تعاليم دينه، أو مع القانون، أو مع النظام، مع أن «الضمير» يجب أن يكون بمثابة «كاميرا ساهر الشخصية»، التي يرصد خلالها الشخص كل تصرفاته وسلوكياته، فلو سأل كل شخص نفسه أولا: هل لو خالف -أيا كانت هذه المخالفة نظامية أو سلوكية- فهل هذا يتفق مع تعاليم دينه، مع القانون، مع النظام، وأنه لو خالف فلن يعاقبه أحد؟ أم أن هذا التصرف أو السلوك، مخالف للدين والنظام والقانون، ولأعراف المجتمع، وأنه لو ارتكب هذه المخالفة، أيا كانت فستضعه في خانة المذنب في حق نفسه والمجتمع.

فعلى سبيل المثال، رجل المرور مهمته رعاية النظام المروري، وضبط السير في الطرقات، فهذا حارس بشري، وهناك حارس آلي «كاميرا ساهر» للغرض نفسه، عندما يشعر شخص ما أنه في لحظة يمكنه مخالفة نظام المرور في حال غفلة من الرقيب البشري، أو تعطل الحارس الآلي، فليسأل عن «رقابة الضمير»، الضمير الذي يفترض أن يكون الحارس والضابط لكل تصرف وسلوك يتعلق بالمرور أو بغيره؟

فلو لديه رقابة ذاتية، سيجد أن صوت الضمير، يقول له «عليك أن تلتزم بالنظام والقانون طالما لديك قناعة بأهدافه»، فإشارة المرور مثلا، وُضعت لحمايتك وحماية الآخرين حتى لو كنت أنت وحدك من يقف في هذا الشارع، ولا يوجد غيرك، بينما «غفوة الضمير» قد تأخذ أحدهم إلى توزيع نظراته هنا وهناك، «هل من أحد يراه!» وحينما يتيقن أن لا أحد يراه، على الفور يقوم بمخالفة الإشارة الحمراء دون حساب عواقب ما يمكنه أن ينتج من حوادث، معرضا حياته وحياة الآخرين للخطر، أو يقوم بمخالفة كل ما يمكنه أن يكون قادرا على مخالفته، من أنظمة وقوانين تهدف إلى تنظيم جوانب كثيرة في حياته وحياة الآخرين. هذه معضلة لأنها تعني علاوة على أنها إغفاءة ضمير، أنها ستصبح سلوكا مستمرا للقفز على كل القوانين والأنظمة، طالما أن الشخص يستطيع أن يحقق الالتفاف على أي نظام وقانون، طالما أن لا أحد يشاهده، معتبرا أن ذلك الأمر نوع من السلوك الذي يجعله أحد أبطال ثقافتنا الشعبية «فلان ذيب»، ولكم أن تتأملوا -ولو للحظة واحدة- في كثير مما يحدث تحت هذه الثقافة في مجتمعنا مع الأسف، لكنها تعني شيئا واحدا هو «غفوة الضمير».

فالموظف الذي يخرج من مكتبه مبكرا قبل انتهاء دوامه، ويترك المراجعين ينتظرون أمام مكتبه ساعات، ماذا يمكن لنا أن نسمي ذلك ؟ موظف ذيب مثلا؟!

عندما يقوم أحدهم بهضم حقوق العمال، لأنهم لن يطالبوا بحقوقهم ماذا نسميه؟، وينسى أن دعوة من أحدهم يشعر بالظلم كافية أن تدمر حياته.

من يقوم بضرب زوجته أو إهانتها لأنها امرأة، أو يأكل حقوق النساء لأنهن نساء، أو من يتسلط وظيفيا على موظفيه، أو من يتحايل على الأنظمة بشكل عام فيرشو ويقبل الرشوة، ويسميها بأسماء من عنده، أو من يتجرأ على إيذاء البيئة النباتية أو الحيوانية ويلحق الضرر بها لأنها أملاك عامة فلا يهتم، أو من يرمي المخلفات من نافذة السيارة في الطرقات، أو المدرس الذي يدخل على طلابه، ثم ينشغل عنهم بهاتفه المحمول طوال دقائق الحصة كلها، ماذا يمكن لنا أن نسميها بغير أنها «غفوة الضمير».

حقيقةً، قد تطول الأمثلة التي يغيب فيها الضمير الذي كان يفترض أن يكون حيا في السر والعلن، وينسى الشخص أن الله هناك لا تخفى عليه خافية.

لقد تذكرت وأنا أكتب هذه السطور جملة لعلها تكون حكمة نسيت من قائلها «لو استبدلنا جملة للحيطان آذان بجملة للملائكة أقلام، لخرج لنا جيل يراقب الله قبل مراقبته الناس»، لعلها تكون للراحل غازي القصيبي، إنها تعني رقابة الذات وصحوة الضمير. إن احترام القوانين والأنظمة، كثقافة، يجب أن تبدأ من البيت، ثم تكمل المهمة المدرسة عبر الأنشطة المدرسية التي تهدف إلى ترسيخ الرقابة الذاتية.

يجب أن نربي في الجيل «رقابة الضمير» إذا ما أردنا تحقيق التقدم، وسط سلوك صحيح مستمد من ثقافتنا الدينية والاجتماعية، فنحن أمة تعلمنا «أن تعبد الله كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وما أصدق القائل «إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل...خلوت ولكن قل عليّ رقيب». إنها رقابة الضمير، رقابة الذات.

وفي الختام، وفي نقطة ذات صلة بالموضوع، فكثيرا ما توقفت بُعيد كل حادثة فيها مخالفة للنظام في بلدنا، وأنا أبدي استغرابي حينما أشاهد من يحاول إظهار «الالتزام بالأنظمة والقوانين» خارج بلاده، ويلتزم بها دون أن يجرؤ على مخالفتها أو الاقتراب من مخالفتها، بل ويظهر «الافتتان والإعجاب بها»، وبما يلمسه من أنظمة وقوانين ربما عندنا ما يماثلها أو أفضل منها، ويندهش من التزام الناس بها هناك، بينما عندنا نشاهد الانفلات على القوانين والأنظمة، ويتم وصف ذلك «بالشطارة»!.