خصصت مجلة الإيكونوميست الرصينة موضوع غلافها الأسبوع الماضي لمستقبل العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، وكان طرحها متشائماً، خلاصته أن التباين الكبير في المصالح بين الدول الأعضاء قد يؤدي إلى انفراط عقد هذه الوحدة الفريدة من نوعها. وترى المجلة أن انفراط الوحدة النقدية الأوروبية سيكون مكلفاً كثيراً لو حدث، إلا أنه قد يصبح أمراً لا مفر منه بسبب الضغوط السياسية الداخلية في ألمانيا والدول المستفيدة من عمليات الإنقاذ المالي مثل اليونان وإيرلندا.
ومن المعروف أن أحد شروط اتفاقية الاتحاد النقدي الأوروبي ألا يكون هناك إنقاذ للدول التي تعجز عن الوفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في الاتفاقية، ولكن من الواضح أن ألمانيا، وإلى حد أقل بعض الدول الأخرى في الاتحاد، قد قامت بعملية إنقاذ كبيرة، أولاً لليونان، ثم لإيرلندا هذا الشهر.
وقد اجتهد المسؤولون الأوروبيون في تبرير هذه العمليات بأنها لا تخالف ذلك الشرط، وأذكر نقاشات مطولة مع مسؤولين أوروبيين تساءلتُ فيها كيف لا تُعتبر عمليات الإقراض لليونان نوعاً من الإنقاذ الذي يخالف ذلك الشرط، إلا أنهم رأوا أنها ليست إنقاذاً بالمعنى المقصود في الاتفاقية لأن القروض كانت بسعر السوق، مع أن اليونان لم تكن لتستطيع الاقتراض من الأسواق المالية بسعر الفائدة العالمي، ولا بضعفه، مما يعني أن القروض كانت بشروط ميسرة، أي إنقاذ. ولعله لذلك لم يقبل المواطن العادي الأوروبي تلك التبريرات، ولم تقبلها الأسواق المالية، إذ ما زالت تضع علاوة على قروضها لليونان، ثم لإيرلندا، بل أصبحت تضع علاوات على سندات عدد لا بأس به من الدول الأخرى الأعضاء في الوحدة النقدية.
ولننظر إلى الوجه الآخر للموضوع، وهو الدول المستفيدة من خطط الإنقاذ، إذ إن تلك الخطط فرضت إجراءات تقشفية أفقدت الملايين مصادر رزقهم، وأضعفت الحماية الاجتماعية التي تقدمها الدولة، مثل الضمان الاجتماعي والتقاعد والتعليم، مما أدى إلى احتجاجات واسعة، بعضها عنيف. ومن الطبيعي أن تتحول هذه الاحتجاجات إلى أداة في يد المعارضة السياسية، وأن تصبح فكرة الانسحاب من اليورو حلاً سريعاً للتخلص من تلك القيود.
ولم تتطرق الإيكونوميست إلى عوامل أخرى، قد لا تقل أهمية في نظري في تفسير إحباط المواطن الأوروبي. وأهمها عدم التزام معظم دول الاتحاد الأوروبي بالمعايير التي نصّت عليها اتفاقية ماسترخت، وهي الاتفاقية التي قامت عليها الوحدة النقدية الأوروبية، وعدم قدرة الاتحاد على فرض الالتزام بها. ولعل ذلك يفسر الشعور بأن الاتحاد قد كافأ أشد المخالفين لتلك الالتزامات، مثل اليونان وإيرلندا، بدلاً من أن يتخذ بشأنها إجراءات عقابية.
والمشكلة في الالتزام لا تنحصر في اليونان وإيرلندا، بل في معظم دول الاتحاد الأوروبي. ولنأخذ معيار العجز في الميزانية - أو الفرق بين دخل الحكومة ومصروفاتها. فاتفاقية ماسترخت تنص على ألا يتجاوز ذلك العجز السنوي 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مقياس للانضباط المالي للحكومة، ضروري لصحة السياسة الحكومية واستدامتها. ومع ذلك ليس هناك سوى دول ثلاث من دول اليورو، هي ألمانيا ولوكسمبورج وفنلندا، ما زالت ملتزمة بهذه النسبة. أما بقية الدول الأعضاء فلم تلتزم بذلك، إذ تجاوزت نسبة العجز في اليونان 15% وإيرلندا 14% وإسبانيا 11% من الناتج المحلي الإجمالي...
ولا تختلف قصة الالتزام بحجم الدَّين الحكومي عن ذلك كثيراً، فمعايير الوحدة النقدية تنص على ألا يتجاوز هذا الدين نسبة 60% من حجم الناتج المحلي الإجمالي. أما في الواقع، فليس هناك سوى أربع دول من الدول الأعضاء في الوحدة النقدية ما زالت ملتزمة بذلك، هي ألمانيا وإسبانيا وفنلندا ولوكسمبورج. أما البقية فقد اخترقت ذلك الحاجز منذ فترة، إذ يتجاوز الدين الحكومي في اليونان نسبة 126% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي إيطاليا 116%، وفي بلجيكا 96%.
وعلى الرغم من التطمينات التي صدرت عن اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل في نهاية الأسبوع الماضي، فإن إعلانهم لم يعالج التعارض الأساسي في المصالح بين ألمانيا والدول المستفيدة من برامج الإنقاذ، ولذلك فإنه إذا أصبح موضوع إنقاذ اليورو مشكلة انتخابية للمستشارة الألمانية ميركل، فليس من المستبعد أن تضحي باليورو للفوز في الانتخابات، خاصة أن استطلاعات الرأي تظهر أن 47% من الألمان قد فقدوا الثقة في اليورو، ويرغبون في العودة إلى المارك. ولو انسحبت ألمانيا من اليورو فإن الأسواق قد تفقد ثقتها فيه.
وبالمثل، فإن الاحتجاجات على الإجراءات التقشفية في اليونان وإيرلندا قد وصلت إلى درجة حادة، ولو اشتدت وتيرتها وأصبحت تشكل تهديداً سياسياً أو اجتماعيا، لوجب ألا نستبعد أن تنسحبا من منطقة اليورو، وقد لا تشكل هاتان الدولتان ثقلاً كبيراً في اقتصاديات اليورو، إلا أن انسحاب أي منهما سيؤدي إلى زعزعة ثقة الأسواق في مستقبل اليورو.