في أول يوم دراسي، تحمل أبلة آمنة حقيبة كبيرة محشوة بالمراييل وربطات الشعر بأشكالها وألوانها، والملابس الداخلية الصيفية منها والشتوية، وقلامات الأظافر وأمشاط الشعر وكريماته، والجوارب والمعاطف الشتوية، والعطورات.

أبلة آمنة لا تمتهن التجارة بجانب التعليم، ولكنها تمتهن الإنسانية التي هي من ضروريات التربية والتعليم لو يعلمون.

تتوجه أبلة آمنة إلى الصف الأول في إحدى المدارس الكبيرة جنوب المملكة حيث تنخفض درجة الحرارة شتاء إلى درجات متدنية، وتبدأ بترتيب محتويات الشنطة داخل دولاب وضعته في الفصل خصيصا لهذه المحتويات.

تقول أبلة آمنة، يحدث أن تأتي الطفلة من منزلها إلى المدرسة وهي لم تجد من يبدل ملابسها الداخلية، أو يغسل مريولها، أو يسرح شعرها، أو يقلم أظافرها لغياب الأم أو مرضها أو أي سبب آخر، يحدث أن تأتي الطفلة إلى المدرسة في الشتاء وهي ترجف لأن أحدا لم يعتن بتدفئتها، فقرا أو إهمالا أو لأي ظرف آخر، يحدث أن تتبول الطالبة على نفسها خوفا أو مرضا، يحدث ويحدث، وما أكثر ما يحدث، فأكون جاهزة للتدخل كل صباح.

أبلة آمنة عاصرت الزمن الذي كان التعنيف والضرب والتوبيخ هو السائد بين المعلمين والمعلمات في التعامل مع الطلاب.

أبلة آمنة ليست من هؤلاء بالطبع، لكنها لم تكن لتكتفي بذلك، كانت في آخر النهار تجمع الطالبات ذوات التحصيل الدراسي المنخفض، بسبب جهل الوالدين حينها، أو لأسباب أخرى، وتقوم بمساعدتهن في حل واجباتهن ومذاكرة دروس الغد، حتى تلك المواد التي لا تشرف على تدريسها، لتجنبهن العقاب أو الإحراج بين زميلاتهن المتفوقات!.

أبلة آمنة قضت ربع قرن تقريبا ولم يضق صدرها بعد بطالبات الصف الأول، ولم تتخل يوما عن تدريس هذا الصف الذي يهرب الجميع من تدريسه.

لأنها تخشى -إن تركته- أن ترتجف طفلة من قسوة الشتاء دون أن تراها، أو ينتثر شعر أخرى دون أن تهذّبه لها، أو تبكي طفلة في الخفاء دون أن تمسح دموعها وتضمها إلى صدرها الحنون.

ذرية أبلة آمنة من الذكور، ولم يرزقها الله البنات، لكنها أمٌّ لمئات الطالبات اللاتي مررن بها في الصف الأول، شربن من نبعها الصافي، ونهلن من معينها العذب، وتعلّمن على يديها أبجديات الحياة مع أبجدية الحروف، وتلقين منها دروس العطاء المتدفق والخلق الرفيع والتربية بلطف، والتعليم بحب.

ومضت أجيال تدعو لها ولا تنساها، وبقيت أبلة آمنة تسقي الغراس بماء الروح!.