«1»

المعلمات في المناطق النائية.. «حكاية كل عام»، ومأساة كل سنة دراسية جديدة، المعلمات هؤلاء هن أختي وأختك وأخت وزير التعليم وأخت وكلاء الوزارة، وربما في بعض الحالات هن الأمهات عندما يطول بهن زمن انتظار التعيين إلى هذا الحد! أخواتنا المعلمات المغتربات «في المناطق النائية»، هؤلاء اللاتي اخترن أشرف المهن، خدمة للتعليم في بلادهن الكريمة، وكسبا لرزق يكفيهن عوادي الزمن مع ما يَعُلْنَ من آباء وأمهات حينا، أو من أطفال في أحيان أخرى، لم يخطر على بالهن أن المسألة ستتجاوز مهمة التعليم إلى مهمات أخرى «من كل شكل ولون»: مهمة البحث عن المدرسة عند التعيين وسط الجبال والأودية، أو في الصحراء المترامية الأطراف، ثم مهمة البحث عن سائق «أمين»، وليس أي «سائق» فحسب، فالأمر سيتعلق بعد ذلك بمفازات بعيدة ومهجورة وخطرة، حتى يتكفل هذا السائق بـ«المشوار»المضني من وإلى المدرسة بعد ذلك بشكل مطمئن، والحماية من أي أذى محتمل، فهو الرجل الوحيد المسؤول في الذهنية الجمعية -من قبل والآن- عن صون عفة المرأة وحمايتها من أي أذى يهدد حياتها وأنوثتها وكل شيء، ثم تأتي المهمة المستحيلة الأخرى وهي مهمة إيجاد السكن المناسب للعيش أولا والآمن ثانيا والقريب ما أمكن من للمدرسة ثالثا!

وتتخلل تلك المهمات مهمة البحث عن سبيل للنقل «بالطبع»، من تلك المدرسة «المستحيلة» إلى منطقة أخرى أكثر قربا من الوالدين أو الزوج والأطفال أو جميعهم معا! «أليست هذه المعلمة هي المرأة ذاتها التي لطالما نادت قيمنا الدينية والثقافية في الوعي الاجتماعي العام، بأن تكون ساكنة آمنة في حضن أهلها، بعيدا عن أعين المتلصصين، ورغبات المتحرشين الغرباء، وأن تغلق حولها الأبواب الموصدة، خوفا عليها من الخروج إلى ما لا يحمد عقباه؟! بلى، هي نفسها تلك المرأة، فلماذا نتجاهل كل ما استقر في وعينا ووعيها خلال عقود من الزمن، ونتركها الآن تقرر مصيرها مع ظروف الخارج، والذي ربما تكون فيه نهبا للطائشين من أي نوع، وضحية لمساومات الغرباء من الرجال الذين سيقودونها إلى مدرستها النائية، وراء التلال والجبال والوهاد، ودنياها التي تعرف كلها، أو الذين سيؤجرون لها المسكن الذي سيلم غربتها وضعفها وقلة حيلتها ساعات قليلة ممكنة من بقية اليوم الدراسي الموتور، المفعم بالوجل والحذر والترقب والعمل!».

 «2»

سنوات كثيرة -تمتد عقودا من الزمن- ووزارة «التعليم» عاجزة تماما عن صياغة آلية «صحيحة» لعمل المعلمات في المناطق النائية، حتى بلغ عددهن أكثر من 65 ألف معلمة! عجزت الوزارة عن اختيار الطريقة المناسبة للتعيين بداية، ثم عجزت عن إقناع الآلاف من طالبات النقل كل عام أن عملية النقل «الخارجي» تلك تتم خلال عمل دقيق وموضوعي وأمين، وهن يرين أن إحداهن قد تبقى «نائية» لـ8 سنوات مثلا، في حين أن زميلتها في التخصص ذاته، والأقل منها خبرة ودرجة علمية وعملية، لم يمض على معاناتها أكثر من 8 أشهر، وجاء قرار نقلها على طبق من فيتامينات متنوعة قوية!

عجزت الوزارة عن منح هؤلاء النائيات ما يناسب معاناتهن من بدلات النقل والخطر والسكن، وهن يقتطعن بألم من رواتبهن المهدرة 1500 ريال كحد أدنى لتنقلهن اليومي إلى مدارسهن و2500 ريال كحد أدنى لسكن استغل أصحابه حاجتهن إلى مساكن تلملم شتات أمرهن، بين الجبال الشاهقات والصحارى الشاسعات، إضافة إلى مصاريف معيشتهن وتذاكر سفرهن الباهظة متى اضطررن -اضطرارا- للسفر إلى ذويهن كل أسبوع أو أسبوعين، تلبية لاحتياجات والدين وحيدين أو زوج وحيد أو أطفال «كثيرين»! وفي هذه الحالات المألوفة، لن يبقى بالتأكيد سوى «الربع» البائس من راتب مهدر على الطرقات!.

حقا، فقد عجزت الوزارة بكل طاقمها الإداري الضخم، وميزانيتها الأضخم، وبياناتها الأفخم، عن تحقيق تلك الآلية المنطقية التي يجب أن تتحقق لمنظومة العمل في المناطق النائية للمعلمات في بلادنا، كما عجزت «والشغلة كلها عجز في عجز إلى

ما لا نهاية» عن تهيئة بيئة وظروف مناسبتين ومحفزتين للعمل في تلك المنظومة النائية، بعدما تأكدت الوزارة والمعلمات والناس أجمعين، أن «الفأس وقع في رؤوس شتى، وليس ثمة خبرة أو إرادة أو رغبة على الأقل في توجيه تلك الفأس للحرث النبيل والخصب والحياة»!

 «3»

إضافة إلى ذلك العجز المرير في معالجة المشكلة الحقيقية، فإن هؤلاء المعلمات لم يجدن من قيادات التعليم غير الصدود والجفا، مع كل فرصة للقاء، وآخر المشاهد المؤلمة، ما كان في رمضان الماضي، حين قدمت مجموعة من المغتربات من مدن وقرى مختلفة في المنطقة الشرقية للقاء الوزير العيسى، الذي أفادهن مدير مكتبه بداية بأن المخصص للمقابلة دقيقتان فقط!

ربما انقضت كلتاهما في جملة، ولكن المفارقة الصادمة في المشهد: أن المعلمات لا يستحققن في وعي الوزارة أكثر من دقيقتين! المعلمات اللاتي هن حجر الزاوية في العملية التعليمية، واللاتي يقمن بأشرف المهمات بتضحيات فريدة لا يستحققن سوى 120 ثانية لسماع ما عندهن من هَمّ وحيد!.

 «4»

تلك بعضٌ من حكايات معلمات مغتربات في القرى والهجر القصية، مرورا بأقسى الطرق النائية وعورة ورعونة وخطورة، أ ضعها أمام من بيده «محاولة» كتابة فصل أخير لتك الحكاية الأليمة «لربما»!.