يُعد الابتعاث من أحد أهم المتطلبات الهامة لتطوير مواردنا البشرية المواطنة، ويشمل ذلك جميع منسوبي الابتعاث من المواطنين سواء أكانوا مبتعثين كأكاديميين في الجامعات، أو غيرهم من المبتعثين لقطاعات الدولة المختلفة، أو من طلاب مخرجات الثانوية لاستكمال درجاتهم العلمية العليا، وذلك ابتداء من البكالوريوس وحتى الدكتوراه، ويتضمن ذلك جميع منسوبي برنامج الابتعاث الداخلي والخارجي؛ ولذلك فإن متابعة شأن واقع الابتعاث والمبتعثين يتطلب جهودا مضاعفة وإجراءات تطويرية وجهات مسؤولة معنية بالمتابعة الدائمة لواقع المبتعثين فرداً فرداً، وألا يكون ذلك فقط من خلال الملحقيات في الخارج في دول الابتعاث، وإنما هي مسؤولية مرتبطة بوزارة التعليم التي تتم معظم برامج الابتعاث تحت مظلتها، وأما ما يجري خارج إطارها فهو متابع من الجهات المعنية به والمسؤولة عنه.

 وعلى الرغم من وجود إدارات أو وكالات خاصة بالابتعاث وبمتابعة شؤون المبتعثين في وزارة التعليم، إلا أنها حتى الآن لم تتمكن من ضبط وتطوير منظومة الابتعاث والمبتعثين بما يتلاءم مع توسع برامجه وزيادة منسوبيه وتغير متطلباته، علاوة على ما يتبع ذلك من إجراءات تطويرية وقوانين مُنظمة له، بما يخدم مرونته وفاعليته وضبطه، هذا بالإضافة إلى ما يحتاجه برنامج الابتعاث من تفصيلات وتصنيفات في لائحته ومواده، تنُظم متطلباته وشروطه؛ وبما يتلاءم مع حاجاتنا التنموية والقطاعات المختلفة، بحيث لا تكون اللائحة شاملة للجميع بكل تفاصيلها للقطاعات المختلفة.

 ومن المؤكد أن هناك اختلافا كبيرا في المتطلبات العلمية للمبتعثين، والتي تختلف باختلاف القطاعات التي نستهدف تأهيلهم لها، فمن يبتعث كأكاديمي على سبيل المثال؛ يتطلب أن تكون دراسته امتداداً لتخصصه الأكاديمي الأولي في البكالوريوس أو تابعا له بما يكسبه عمقاً في التخصص، ويمكنه من أداء دوره المطلوب كأستاذ جامعي وكباحث متمكن علمياً، بينما ذلك العمق العلمي ليس مطلوباً في كافة القطاعات الأخرى غير الأكاديمية، بل إن الاختلاف فيه يعتبر إثراء وتمكيناً لصاحبه في مجال عمله بصفة العموم، ويستثنى من ذلك قلة ممن تحتاجهم القطاعات الأخرى، وعلى سبيل المثال عندما نبتعث مهندساً فليس المطلوب أن يستكمل دراسته في ذات المسار العلمي، لأن دراسته مثلاً، لتقنية ما، أو لإدارة الأعمال في المشاريع ستكون أكثر فائدة وقيمة له وللقطاع الذي يخدمه، بل وإن الخبرة وممارسة العمل ستدعمه حتى في تخصصه الأساس، وذلك يجري في كافة التخصصات الأخرى التي تخدم قطاعات مختلفة غير التعليم.

 ومن جهة أخرى فإن متابعة واقع المبتعثين ومتطلباتهم واحتياجاتهم المتطورة تحتاج لمتابعة دائمة ولصيقة من قبل وزارة التعليم، بما يخدم تيسير كافة سبل استكمال ابتعاثهم، والانتهاء من تلك المرحلة الإعدادية لكوادرنا الوطنية في دول الابتعاث، ليعودوا وليتحملوا مسؤوليتهم في خدمة الوطن، وإن ما يجري في شأن الابتعاث الخاص بالجامعات، خاصة «الابتعاث الخارجي» يحتاج لوقفة وتأمل ودراسة ومتابعة واعية من الجهات المسؤولة في الوزارة لمراجعته، لأن ترك الموضوع لمسؤولية الجامعات تماماً وبموافقة شكلية من الوزارة، كان سبباً في تأخر كثير من مبتعثينا في العودة، والذين قد تمتد للبعض منهم مدة دراسة الدكتوراه فقط لنحو عشر سنين ونيف، وتزيد عن ذلك للماجستير والدكتوراه في تخصصات لا تستحق تلك الفترة الزمنية، وذلك في ظل طلب التمديد الدائم ولأسباب خاصة مختلفة، والذي يُعد ليس مبررًا لتلك المدة المضافة، ولذلك فإن هناك هدرا واضحا في مواردنا البشرية والمالية بما لا يخدم تطلعاتنا التنموية الوطنية.

 وبالإشارة إلى ما تم التصريح به ونشره إعلامياً من قبل وزارة التعليم حول عدد المبتعثين من الجامعات السعودية والذي بلغ نحو 12.542 ألف مبتعث، كما أشارت الوزارة في تصريحها، وذلك رداً على التعليقات والمقالات التي تطالب برفع نسبة مساهمة المواطنين المؤهلين علمياً والمتميزين في الجامعات الحكومية «كما أورد التصريح»، فإن هناك الكثير من التساؤلات المطروحة على الوزارة بصدد الابتعاث والتوظيف في الجامعات، ومنها؛ لماذا تربط الوزارة بين ارتفاع حجم منسوبي الابتعاث من الجامعات، وبين العجز أو ضعف مساهمة مواردنا الوطنية في الجامعات الحكومية؟! وإذا كان هناك مبتعثون من المواطنين خارجياً فهل يكونون مبرراً وسبباً لتهميش المواطن المؤهل المتاح في الوطن؟! وإذا كانت الإشكالية في عدد الوظائف الممنوحة من الخدمة المدنية (وذلك غير مقبول) فلماذا لا يكون التعاقد هو البديل؟! ولماذا يتاح التعاقد مع غير المواطن وبمرونة وآلية ميسرة لا تنطبق فيها المتطلبات الأكاديمية، بينما يتناقض ذلك عند التعاقد مع المواطن لتوظيفه أو تعيينه؟!، لماذا لا تطبق المعايير ذاتها؟! وهل وقفت الوزارة على واقع التخصصات وامتداد التخصص لغير المواطن في الجامعات؟! وهل بحثت في الخبرة الأكاديمية الفعلية وجودة المؤهل والمستوى العلمي المطلوب الذي استحق به الوظيفة دون المواطن؟! وهل من يتم التعاقد معهم هم منافسون فعليون للمواطنين المؤهلين في وطنهم؟!

 على الرغم من احترامنا وتقديرنا لكثير من زملائنا من الأكاديميين، إلا أنه في الحقيقة هناك الكثير ممن يتم التعاقد معهم في الجامعات من غير المواطنين، يتم وفق آليات غير مسؤولة ومعايير ضعيفة تناقض كافة المعايير والتطلعات التي يستهدفها الوطن، بل ولا تنافس كثيرا من المؤهلات الوطنية التي يفخر بها الوطن، تلك الكوادر الوطنية التي أنفق عليها الوطن بسخاء لتتحمل مسؤوليتها الوطنية ولتكون ذخراً للوطن، سواء من هؤلاء الشباب المؤهلين الذين ترفضهم الجامعات، أو من الأكاديميين المتقاعدين من المواطنين الذين ترفض الجامعات التمديد لهم أو التعاقد معهم، بينما تتعاقد مع نظرائهم في ذات الوقت ممن هم دونهم أو مثلهم من غير المواطنين، ودون اعتبار للكفاءة أو المواطنة أو المساواة في المعايير أو حتى التقدير في أبسط حقوقه ومبادئه.

 إن تحقيق تطلعاتنا الوطنية وطموحاتنا التنموية لا يكون بالتصريحات المخيبة للآمال، ولا بمواربة الحقيقة وتبرير السياسات الضعيفة والإجراءات التي تفتقر إلى الشفافية والمصداقية في التنفيذ، وإن الاعتراف بالخطأ وبالخلل في المتابعة والتنفيذ؛ هو بداية المعالجة الصحيحة لكثير من السياسات التنموية التي نشهدها في قطاعاتنا التنموية المختلفة ومنها التعليم، لن ينهض الوطن إلا بأيدي أبنائه، ولن يحقق طموحاته ورؤيته، إلا على أكتافهم وبعقولهم وبفكرهم يرتقي وبمنجزاته، وبهم يفتخر الوطن.