بعد استقرار الأمر، واستتباب الأمن وتشكل النظام العالمي السياسي، والتعارف على مجموعة من أشكال الحكم والسلطة التي تم إقرارها، والاعتراف بها بين دول العالم التي تجمعهم رابطة هيئة الأمم المتحدة تحت مظلة واحدة وتحت سقف واحد، تأتي ما يعرف بنظرية التغلب كحالة نشاز في نتائجها وذيولها ومآلاتها، وقد اضطربت حركات التفسير السياسي للإسلام في فكرة التغلب هذه، فقوم دافعوا عنها وبرّرُوها، بحسبانها وسيلة وسبيلا لشرعنة استيلائهم على السلطة، وقوم جرّموها بحسبانها وسيلة ثورة وتشغيب على الحكم القائم.

وفي العموم، فهي نظرية جاهلية، همجية، فوضوية، ترسخ تعطش الإنسان للسلطة والبطش والغلبة والتغلب، وقد جاء الإسلام في أصل تشريعه لمحاربة هذا القبح البشري، ومكافحته، غير أنه -وفي ظل اجتهادات فقهية تبريرية لا تصح نسبتها إلى الشريعة- أصَّل الفقهاء لهذه النظرية ودافعوا عنها، من خلال كتب الأحكام السلطانية، ليقولوا: إن هذا العمل مشروع في الإسلام، وأنه إذا ما تم لمغتصب للسلطة الأمر بالقوة، فإنه يُصبح إمامًا للمسلمين، وولي أمر واجب الطاعة، وأن رفض تغلبه وعدم بيعته من عمل الخوارج المارقين.

ومفهوم نظرية التغلب قائم على المعنى اللغوي المشتق من الغلبة والتغلب والقهر والاستيلاء بالقوة، ومن خلال تعاريف كثيرة لمدارس الفكر الإسلامي الفقهي، يمكن أن نستمد تعريفا جامعا لمسألة التغلب وهو: الاستيلاء على الحكم بغير وجه شرعي بالقوة الجبرية، وإذعان الناس خوفا، ثم مبايعة المتغلب.

وأول من أثار هذه الإشكالية في الفكر الإسلامي، المعتزلة، حينما فهموا قول الله تعالى: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء... الآية»، على أن الله تعالى يمنح الولاية لمن يريد -أي من أخذها بالقوة- وينزعها عمن يريد -أي من اعتمد على غير هذه القوة- وجاءت بعد ذلك الشيعة لتأخذ مسألة الإمامة في العموم بعدا أعمق، إذ جعلوها أصلا من أصول عقيدتهم، ومع كثرة التماس والأخذ والرد بين الشيعة والسنة انتقل إليهم الكلام حول مسائل الإمامة، على الرغم من أن مسألة الإمامة عند أهل السنة مسألة فقهية فرعية وليست من الأصول، وهو الأمر الذي ينسف نظرية الحاكمية المودودية/القطبية من جذورها.

وعلى الرغم من ذلك، فقد تطالعك المسألة مجملة في كتب العقائد السنية، وهذا ناجمٌ عن تتبع مسائل ومواطن الخلاف مع الفرق الكلامية والعقائدية الأخرى -وبالأخص الشيعة- إذ جاءت هذه المسألة في كتب العقائد السنية على سبيل الرد عليها، وإنكارها، وإلا فهي في مظانّها من كتب الفقه، مثلها مثل مسألة المسح على الخفين، والتي تذكر في كتب العقائد السنية ردًا على المذهب الشيعي فيها، وهي مسألة فقهية فرعية بحتة.

وتأتي مسألة بيعة المتغلب -في نظري- داخل إطار من الغدر والخيانة وشق عصا الطاعة، ولا يسعد فقيه غادر بأي دليل يستدل به، بل بيعة المتغلب لا تنعقد، وهي خيانة للأمانة ونقض لبيعة الحاكم، ومن أقر بها فقد استحق العقوبة، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: «من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»، وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» رواهما مسلم (ح1852، ح1853). قال القرطبي في شرحه على مسلم (5/62): «أي: مجتمعة على إمام واحد»، وقال النووي في شرحه على مسلم (13/241): «فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام، أو أراد تفريق كلمة المسلمين»، ومن هذه النصوص تتضح حرمة التغلب، وأن القائم به موصوف بأشد أوصاف «الإثم والجرم»، وأقوال العلماء واضحة جلية في حرمة هذا الصنيع، وحَكَم الجويني، وابن حجر الهيتمي: على المتغلب بالفسق واستحقاق العقاب، ينظر في ذلك كتاب: «الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة لابن حجر الهيتمي، 2/627» وكتاب: «غياث الأمم في التياث الظلم للجويني، ص327».

ولا تصح أو تشرع ولاية لمتغلب أو بيعة، بل هو باغٍ شَرْعَن بغيه وغيّه وفسقه الفقهاء القائلون بصحة بيعته وولايته من باب الضرورة، غشًا وزورًا وخورًا وجبنًا، وخوضًا في السياسة لا أكثر ولا أقل، ومن العجب أن يفصل الفقهاء اللئام في ضوابط بيعة المتغلب فيقولون مثلا: لا بيعة لمتغلب لم يستجمع الشروط، كأرعن طائش، أو مستبد جاهل، أو أحمق عربيد، على الرغم من أنهم أقروا البيعة في الأساس لباغٍ ظالم فاسق بخروجه على إمامه.

هناك كثير من النصوص التي تجرم نظرية ولاية المتغلب، وتفسق التطبيق والموافقة عليها وشرعنتها، غير أنه يتم تجريم هذه النظرية من زاوية أخرى غير متوقعة، تمهيدا لتمرير وضع فاسد آخر، إذ يقول البعض إن القائمين الحاليين بالحكم في البلدان الإسلامية، إنما قامت ولايتهم على أساس نظرية التغلب، فحكمهم حكم استبداد وقهر، وهذا بطبيعة الحال لا يخفى القائل به والمؤيد له، وهم أهل التفسير السياسي للإسلام، أصحاب الحاكمية من الإخوان وجماعات التكفير والهجرة وحزب التحرير، وغيرهم ممن يلبسون مسوح الدين، وقلوبهم قلوب سياسة وسلطة وحكم، ولا يعوز هؤلاء العلم والمعرفة حول استقرار السياسية العالمية وطرائق الحكم، والفروقات بين العالم المتقدم وعالم الدول النامية ودول العالم الثالث، وكيف أن تناول مسألة الحكم والإمامة تختلف بين المسلمين، وغيرهم من الديانات الأخرى، أو النظريات البشرية المتعددة، وأضرب لهذا الخطل والغش مثالين فقط:

الأول: في كتاب «تفكيك الاستبداد»: اتهم صاحبه العلماء والفقهاء بأنهم «علماء الاستبداد»، واتهمهم بالتأصيل العقدي لطاعة المتغلب، وتقنين العلاقة مع المعتدي، وتوظيف الإجماع في شرعية التغلب، وتقنين العلاقة بالمعتدي ومن معه، ومنع استرداد الحقِّ بالقوة، ونشر المأثورات السلفية ومقولات «الفقه الساساني» في تقديس الحكام. «تفكيك الاستبداد، محمد العبد الكريم، الشبكة العربية، بيروت، أولى،2013، ص: 29-33-102-103».

الثاني: في كتاب «الحرية أو الطوفان» يقول: «... ومع كل هذا التفصيل والثراء الفقهي في هذا الموضوع، إلا أنه ظل بحثًا نظريًا بعيدًا عن الواقع الذي سيطرت عليه نظرية الاستيلاء بالقوة، وهي الطريقة التي أجازها من أجازها اضطرارًا ومراعاة للمصلحة، فإذا بها تصبح أصلا للوصول إلى السلطة مدة ألف وثلاثمئة وخمسين سنة». «الحرية أو الطوفان، حاكم المطيري، المؤسسة العربية، بيروت، ثانية، 2008، ص: 127».

وهكذا هم أهل الأهواء والملل والنحل، يكيفون النصوص حسب آرائهم، ويلوون أعناقها حيثما اتجهت أهواؤهم، والمثالان السابقان ما هما إلا شرعنة خفية، وإثبات بطريق المعاكسة لولاية تغلب وقهر، تمهد لجماعات القاعدة والنصرة وداعش ومن لفّ لفها، أو سار في طريقها مستقبلا، لتولي الحكم والسلطة، وجاء الحث على ولاية التغلب الخائنة من باب نقد ذات النظرية، حتى يجوزوا الخروج على الحكام المتغلبين -زعموا-، وهذا مما يطول منه العجب في حال دجل القوم وكذبهم وغشهم للأمة شعوبا وحكاما، ويطول العجب من بغيهم وغيهم.

أخيرا، يقول الشيخ صالح الفوزان: «فإذا خرج على الإمام قوم لهم شوكة ومنعة بتأويل مشتبه، يريدون خلعه أو مخالفته وشق عصا الطاعة وتفريق الكلمة، فهم بغاة ظلمة». «الملخص الفقهي، د. صالح الفوزان، دار العاصمة، الرياض، أولى،1423هـ، 2/561».