لدينا فرصة كبيرة هذه الأيام أن نفتح سؤال الأخلاق في مجتمعنا من خلال أزمة عاملات المنازل المتصاعدة حاليا والتي أدت بلجنة الاستقدام في مجلس الغرفة التجارية إلى أن تطلب من المواطنين عدم استقدام عاملات منزليات من إندونيسيا حتى يتم حل الإشكالات الدائرة حاليا بين البلدين حسب ما ورد في "الوطن" الأحد الماضي. أعتقد أن الإندونيسيين بدؤوا يساعدوننا في التفكير في الموضوع من خلال الاتفاق على أن هناك أزمة حقيقية يجب حلها ولا يمكن تجاهلها بعد الآن.
بدأنا نقاش سؤال الأخلاق لدينا الأسبوع الماضي من خلال تحليل لمقرر تربوي يقدم للأطفال ليؤسس لديهم ما يمكن تسميته بالمنطق الأخلاقي للتعامل مع الآخرين، خصوصا أولئك القريبين في المنزل من عاملات منزليات وسائقين خاصين. هذا المنطق يعاني من أزمة حقيقية باعتبار أنه يؤسس للتعامل الأخلاقي مع الآخرين انطلاقا من تحقيق منفعة ذاتية مغيّبا عن الصورة الواجب الإنساني العام المتعالي على المصالح. هذا التأسيس يفتح الباب واسعا للأفراد والثقافات في التحايل على الواجبات الأخلاقية والتناقضات وسلسلة من الظلم الموجه للأطراف الضعيفة دون قلق أو شعور فردي أو جماعي بالمشكلة.
اليوم سأفتح باب اللغة. من المعلوم أن اللغة هي الوسيلة التي يستخدمها الناس للتواصل وفيها يمكن أن نعثر على طبيعة هذا التواصل وطبيعة العلاقة التي تربط طرفي التواصل ورؤية كل طرف للآخر. لدينا هنا في السعودية، وربما في عدد من الدول الخليجية، حالة فريدة، فقد قمنا بخلق لغة جديدة خاصة بتواصلنا مع العمالة. لغة لا نستخدمها فيما بيننا، نسخر منها، نعاملها بدونية، وهي في الأخير وسيلتنا للتواصل مع ملايين المقيمين في بلداننا. من هذه اللغة يمكن تحديد جوهر علاقتنا مع شركائنا في الحياة في هذا الوطن.
في ثقافات عديدة أخرى لا نعثر على هذه الظاهرة، في أميركا على سبيل المثال لا يحدثنا الناس بلغة خاصة، أحيانا حين يجدون صعوبة في إيصال الأفكار تجدهم يبطّئون الحديث نوعا ما ولكنها تبقى اللغة ذاتها التي يتعامل معها الجميع. هنا لا تشعر بالتمييز، لا تشعر أنك حالة خاصة بسبب قدومك من بلد أو ثقافة أخرى. تشعر بالمساواة. في المقابل الوافد لدينا لا يتم التعامل معه لغويا كما يتم التعامل مع الآخرين. هو محصور في لغة تصنف دنيا لا يقبل السكان الأصليون التعامل بها فيما بينهم. هذه اللغة تنقل رؤيتهم له، موقفهم منه، علاقتهم المصلحية الآلية له.
هذه اللغة التي نستخدمها مع الوافدين لغة محدودة، لغة عملية تحتوي على عدد بسيط من أفعال الأمر والنهي وتفتقد للغة الروح، تفتقد لعبارات الحب والتعاطف والتواصل الفكري. لغة تعبّر عن علاقة لا إنسانية بالمعنى الأخلاقي للإنسانية. لغة تحصر العلاقة بين الأفراد في أفق ضيق يمنعهم من الوصول إلى بعضهم البعض. لغة أصبحت حاجزا حتى لأولئك الإنسانيين الذين يرغبون في رؤية بعضهم البعض. اليوم لو أراد أحدنا التواصل الإنساني، الفكري والعاطفي مع أحد المقيمين ممن لا يتحدثون الإنجليزية فإنه سيقع في أزمة حقيقية، فالأداة اللغوية المتوفرة فقيرة وعقيم ولا تحتوي على مفاتيح هذا التواصل. نعلم أن الأفراد لا يخلقون اللغة بقدر ما تفعل الجماعة، وهنا نرى أننا محصورون في ورطة لغوية تعبر عن ورطتنا الإنسانية وأزمتنا الأخلاقية.
من الأشياء المثيرة للتأمل والإعجاب والحزن أيضا في ثقافات متعددة، ومنها ثقافتنا في حدود ضيقة، تلك اللغة التي يتعامل بها الناس، ليس فقط مع الآخرين بل حتى مع الحيوانات والأرض والأشياء. تلك اللغة التي يحضر فيها الطرفان حضورا حقيقيا وتعبر اللغة بينهما عن جوهر هذه العلاقة. من المثير للدهشة أن ترى سيدة تحدث كلبها أو ماعزها بلغة مليئة بالحب والشعور القوي بوجود الطرف الآخر. تلك اللغة التي تحوي الكثير من المناجاة والاحتضان، اللغة التي تعبّر عن تواصل عميق بين هذين الكائنين. حتى ولو لم يتكلم الحيوان لغويا إلا أنه يبقى مسموعا وحاضرا من خلال وسيلته في التعبير. علاقة الفلاح مع أرضه وحوارهم المولود في كل صباح تعكس تلك العلاقة الفريدة من نوعها. سؤالنا: لماذا نعجز أن نحقق ولو جزءا من هذه المستويات مع ملايين البشر الذين يعيشون معنا، في بيوتنا، قريبا جدا منا مكانيا ولكنهم في مكان بعيد جدا عن وعينا وأرواحنا؟
البشر يخلقون اللغة التي يريدون، اللغة التي تحقق رغباتهم واحتياجاتهم، كل يوم تخلق كلمة جديدة تعبر عن شيء جديد، موقف جديد، وهكذا، فيمكننا القول إن اللغة الجديدة التي خلقناها للتعامل مع الآخرين المقيمين لدينا، تلك اللغة العملية جدا، الفقيرة جدا، المحصورة في أفعال صارمة وتفتقر لمفردات الروح والعقل، هذه اللغة تعبّر بوضوح أن أزمة أخلاقية عميقة تحجبنا من العيش الإنساني مع الآخرين، تمنعنا من أن نعيش في مكان ينعم بالحرية والعدل. إنها لغة تلقي بنا في عالم موحش نهرب منه كل يوم من خلال صرف النظر إلى الاتجاه الآخر، من خلال مزيد من العمى، مزيد من إخفاء إنسان بجانبنا، إنسان يعيش معنا ولا يعيش معنا. هذه اللغة تشير إلى ظلم عميق وإلى مسؤولية كبيرة لا أعتقد أن الهروب منها سيطول. اليوم إخوان لنا في إندونيسيا يساعدوننا في أن نستيقظ، يساعدوننا في أن نتوقف ونعيد التفكير، حاجتهم المالية القاسية للعمل تهدأ في الدفع بهذا الوضع المؤسف للأمام أكثر. نحن في المقابل نحتاج إلى فتح الأسئلة الكبرى: ما هو الإنسان؟ وما هي القيم الأخلاقية التي يجب أن تحكم علاقة البشر.. ولماذا؟