تعني كلمة «شويا»، في العاميات العربية، معاني عدة، منها: البقية القليلة، كما في قولنا: «ما بقي من الأكل إلا شويا»؛ والقدر الصغير من الشيء، نحو قولنا: «أديني شويا»، وقد تعني: تمهل، كما في عبارة: «شويا شويا»، أو تدل على الزمن: «قبل شويا»، أي: قبل لحظات.

 وإذا تأملنا هذه الكلمة الطريفة ألفيناها شائعة في كلام الناس، ويدور عليها مقدار صالح من أحاديثهم، ولخفتها وعذوبتها دخلت في الغناء والنشيد، ولا زلت أذكر كوكب الشرق أم كلثوم تبعث في النفوس السعادة والأنس، وهي تترنم:

غني لي شوي شوي

غني لي وخد عيني

 وطلال مداح صداحا بصوته الساحر:

والمحبة هيا هياكل مالها تزيد شويا

 أما الفنان أبو بكر سالم بلفقيه فلا تزال كلمات أغنيته ترن في أذني، وهو يقول:

يا حامل الأثقال

خففها شويدا حمل ما ينشال ولحسن دردير أنشودة قديمة عن المرور يقول فيها:

يا تاكسي يا طاير

يا خصوصي يا طاير يا لوري يا طاير هدي السرعه دي ميهكل يسوق بجنون

ويزيد شويه، وفي حديث الناس إذا ما كثر الجدل واستطال نسمع من يقول: «فلان زودها شويا»، ونفهم منه بلوغ الحديث مرتبة قريبة من الخصومة واللدد. وإذا ما وصف إنسان بالثراء وبسطة اليد، قيل، تعبيرا عن ثرائه: «عنده شي وشويات»، وكأنهم استغنوا بـ«شويات» عن الجمع المألوف «أشياء». وأغلب الظن أن «شويا» تمت بصلة إلى «شيء»، ويظهر من الصيغة العامية ومن الاستعمال اللغوي أنها تصغير لكلمة «شيء»، وإن أباها اللغويون وأصحاب المعجمات، وعندهم أن «تصغير الشيء: شُييء وشِييء، بكسر الشين وضمها». وإذا ما استعنا بالمعجم وجدنا الآتي: «شيء، وجمعها أشياء: اسم لأي موجود ثابت متحقق يصح أن يتصور ويخبر عنه، سواء أكان حسيا أم معنويا»، وفي التنزيل العزيز: ?ليس كمثله شيء?، ?ولنبلونكم بشيء من الخوف?، ?لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم?، ?ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا?، وقوله – عز من قائل -: ?إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون?.

 وكلمة «شيء»، وتخفيفها «شي»، ذات نسب عريق في كلام الناس، وهي من الكلمات الفلسفية، قديما وحديثا، وحسبنا أن نستعين بـ«تعريفات» الشريف الجرجاني، لنعرف مقدار شيوعها في الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، ولقد دأب الفلاسفة في تقصي أمر ما حتى يبلغوا جوهر الشيء، وفي الفلسفة الحديثة وما داخلها من كلام القوم: «التشيؤ»، و«الشيئية»، واشتقوا منها فعلا فقالوا: تشيأ يتشيأ، وكأنهم لمحوا في الشيء نظاما داخليا قادرا على التحول والتبدل بنفسه، وجعلوا «الشيء» هو الوجود الفعلي، وقالوا: «الكلمات والأشياء»، وهو عنوان كتاب للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو.

 وفي عبارات المؤلفين القدامى، وإن لم تخل من عبارات المحدثين، قولهم: «فلان ليس بشيء»! ومن عباراتهم الذائعة: «الشيء بالشيء يذكر» إلماحا إلى بيان المؤتلفات، وتوسيعا للحديث، وطلبا للاستطراد، ومما نسب إلى الفراء أنه قال: «أموت وفي نفسي شيء من حتى»!

 وكلمة «شيء» وجمعها «أشياء» مما استعمل الشعراء، وكأنهم أحسوا لهاتين الكلمتين وقعا شعريا أدركوه هم، وغاب عن لفيف من النقاد الذين نهكوا أنفسهم في تقصي المفردات الشعرية، وكأن كلمة «شيء»، وجمعها «أشياء»، تنافيان الشعرية والمائية، أو كأنهما يبعثان تاريخا محدودا بحدود المادة بـ«شيئيتها» ويبوستها، يدلنا على ذلك كلام ساقه عبد القاهر الجرجاني في «دلائل الإعجاز» في أن اللفظ الواحد يقع مقبولا ومكروها:

«ومن أعجب ذلك لفظة«الشيء»، فإنك تراها مقبولة حسنة في موضع، وضعيفة مستكرهة في موضع. وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:

ومن مالئ عينيه من شيء غيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى

 وقول أبي حية:

إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا، فإنك تعرف حسنها ومكانها من القبول، ثم انظر إليها في بيت المتنبي:

لو الفلك الدوار أبغضت سعيه لعوقه شيء عن الدوران

 فإنك تراها تقل وتضؤل، بحسب نبلها وحسنها فيما تقدم». لكننا نجد أبا نواس يسوق المفرد والجمع في مهاد واحد:

فقل لمن يدعي في العلم فلسفة: حفظت شيئا، وغابت عنك أشياء

 وكأن النواسي، وله سطوة على اللغة، منح هاتين الكلمتين جواز عبور إلى الشعر، فاكتشف الشعراء فيها قوة كامنة، وقد يحس المتحدث باللغة فيها حجبا وإخفاء، أو كأنه يمسك فيها معنى من المواربة يجعلها من ألفاظ الكنايات، لكنهما، على كل حال، أصبحتا مفردتين في حديقة الشعر، وجدناها مثناة في قول القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني – صاحب الوساطة -:وبيني وبين المال شيئان حرما

علي الغنى: نفسي الأبية والدهر

 وفي قول الآخر:

شيئان لو بكت الدماء عليهما

عيناي حتى تؤذنا بذهاب

لم يبلغا المعشار من حقيهما:

فقد الشباب وفرقة الأحباب

 أما قول أحمد شوقي في العصر الحديث:

إن رأتني تميل عني كأن لمتك بيني وبينها أشياء

 فقد ألقى في روع قارئه، أو سامعه، أن يخمن تلك «الأشياء»! ومن «أشياء» أحمد شوقي أعود، مرة أخرى، إلى كلمة «شيء» في الاستعمال العامي، فمن المألوف أن يسألك امرؤ: «بينك وبين فلان شي؟»، إذا ما تناهى إليه حدوث عتاب أو خصومة أو ما دونهما، وكأنه لا يريد أن يبوح بكلمة الجفوة أو الخصومة، وإذا ما أريد المبالغة في احتقار إنسان وصفوه بـ«الشيء»، ومن ذلك: «هذا الشي إللي جالس هناك»! و«فلان ما يسوى ولا شي»! وفي معجم «المحيط في اللغة»: «وقد يعبر عن الإنسان بالشيء». والشعراء هم أجرأ المتكلمين باللغة عليها، إنهم لا يذعنون إلا لذلك الروح الذي يلف اللغة ويحيط بها، والشاعر الحق هو من لا يرتضي بمقام اللغة مقاما آخر مهما علا قدره في حياة الناس ومعاشهم.

 ومن شيء وأشياء ها أنذا أعود إلى «شويا»، أتقصى النسب الذي ترتفع إليه. وقد يحك في صدر القارئ أن هذه الكلمة ليست عربية النجار، أو أنها ترقى إلى العصر العثماني أو العصر المملوكي، وإذا ما بالغنا في الحدس والتصور فعسى أن تكون من الكلمات التي حبت ودرجت في بغداد أو البصرة، واختلطت فيها العربية بالنبطية. أما أن تكون «شويا» قد نبتت في جزيرة العرب، ونشأت في عرصات الحجاز ونجد، وأنها نفحة من نفحات القرن الخامس الهجري، فهذه عروبة مؤثلة لكلمة درجت إلى جوار الأثل والسدر!

 ومبدأ صلتي بـ«شويا» هذه، القسم الخاص بجزيرة العرب من كتاب «تاريخ الأدب العربي: عصر الدول والإمارات» لشوقي ضيف. وللعلامة الجليل فضل على الثقافة العربية لا يقدره حق قدره إلا من عرف مطاوي كتبه وما اشتملت عليه من معرفة.

 وقف شوقي ضيف وقفة يسيرة عند شاعر من جزيرة العرب، في العصر العباسي الثاني، اسمه قيس العامري! وروى له هذه الأبيات الحلوة العذبة:

قفا صاحبي قليلا عليا ولا تعجلاني يا صاحبيا وعوجا على طلل داثر

لريا، وأين من العين ريا؟

معاهد لم يبق صرف الزمان منها ومني إلا شويا

 وشوقي ضيف الذي اهتز طربا لكلمة «شويا»، نراه يسند القول إلى أبي الحسن الباخرزي (ت 467هـ) وكتابه «دمية القصر وعصرة أهل العصر»، وهو كتاب اقتفى فيه منهج «يتيمة الدهر» لأبي منصور الثعالبي. وإن كان الثعالبي قصر في حق عصرييه من شعراء الجزيرة فإن الباخرزي ادخره لنا القدر ليثبت في كتابه جملة صالحة من شعر جزيرة العرب قبل أن يسكت التاريخ عن شعرائها.

 لا نعرف عن قيس العامري صاحب «شويا» إلا أبياته الثلاثة التي أوردها في «دمية القصر»، وإلا اسمه، وإلا قبيلته، أما ما سوى ذلك فصمت مطبق. وكان مثل سلفه قيس العامري مولها بصاحبته، غير أن التاريخ كان سخيا مع قيس الأول، فأثبت طرائف من شعره، أما صاحبنا فلقد ساق له القدر الباخرزي ليثبت أبياته الثلاثة العذبة هذه.

 أغرم أبو الحسن الباخرزي بشعر الجزيرة العربية في عصره، ورأى في ذلك الشعر تعبيرا عن روح البادية، فجعل القسم الأول من كتابه لـ«طبقات شعراء البدو والحجاز»، وكأنه وقد طال العهد بالشعر البدوي، اشتاق إلى نفحة من نفحات شعر لم يفارق طائفة من شعرائه طفولته وعنفوانه، وتجد هذا الشوق ماثلا في تقدمته لهذا القسم، إذ يقول:

«إن أحسن أبيات الأشعار، ما طلعت من أبيات الأشعار، ورعت الظباء الشيح، وتزودت مع الضباب الريح، مستغنية بحسنها عن التصنع والتعمل، حلوة إذا ذاقها الناظر بحسن التأمل، مصقولة العرقوب بلا تجشم لمؤونة الحمام، مجلوة الثغور بلا منة لفروع البشام، وكذلك قال المتنبي:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

 وقد وقع لي من أشعار هذه الطبقة، ما هو أعذب من الزلال، وأرق من الشمول صفقت بالشمال». ولعل داعي هذا الولع بكل ما هو بدوي في ذلك العصر، تلك الجادة التي سلكها كوكبة من شعراء العصر، لما احتفوا بالزخرف والبديع، فابتعد الشعر عن مرابع طفولته في البادية العربية أو كاد.

 وأنت تمسك في ثلاثة الأبيات التي استبقاها لنا التاريخ من شعر قيس الثاني بأثارة من بداوة، ومن عجب أن نقف فيها على مجمع عبقرية الشعر القديم من وقوف على الطلل الداثر، وكأن قيسا يختم بأبياته البدوية هذه حقبة شعر فصيح لن تعرف له بادية العرب مشابها، وتشرع في شعر بدوي ينزع شيئا فشيئا منزعا عاميا، وكأن قيسا، وهو ابن اللغة، سن لشعراء البادية من بعده الجسارة على الكلمات، فاستأنس «شويا» في حظيرته الشعرية، وما يدرينا فلعله ارتجلها ابتداء، وهو ما لا يجرؤ عليه شعراء الفصحى إلا بعد حين من الزمان طويل!