من المفيد أن نناقش ونجادل ونختصم ثم نتفق، حول مسألة جادة مثل البحث عن إجابة لسؤال كيف يعود السعودي إلى تجارة التجزئة والخدمات وينجح فيها، بل يسيطر عليها، ويتمدد منها إلى غيرها، فهذا أفضل بكثير من المراء الدائر حول عمل المرأة، ومزاعم"التغريب"وتهاويل"الهجمة على الهوية الإسلامية للبلاد والعباد".

لننصرف عن هذا كله وللنظر فيما يفيد المواطن، ويزيد دخله، ويجعله أكثر سعادة وحبورا، بغض النظر عمن يكون هذا المواطن، وما اتجاهه ومذهبه، وما هي محطته التلفزيونية المفضلة.

إن موضوع "البطالة" التي تنهك بعضا من شبابنا، وضعف التعليم والتدريب الذي يضخهم إلى الحياة دون تسليحهم بما يلزم لملاقاة يومها الأسود، والنظر في واقع سوق العمل وحقائق اقتصاد الوطن مسائل غير مؤدلجة تستدعي منا التفكر والتحاور فيها، ولابد أن معالي وزير العمل وغيره من المسؤولين سيهتمون بما يطرح في هذا الموضوع.

في الأسبوع الماضي رأينا خريجي كليات التربية الذين عجزوا مرتين أو أكثر عن تجاوز اختبار القياس بعدما نجحوا في كلياتهم!"ينخون"وزير التربية والتعليم أن يوظفهم لوجه الله، "الفشل والانتخاء" هما اختصار الحالة المتردية للتعليم وللعقلية السائدة تجاه العمل والبحث عن وظيفة، فكثير من العاطلين يعتقدون أنهم ما حرموا من الوظيفة إلا لأنهم افتقدوا "الواسطة" أو الحظ، ولا يضعون ضمن حساباتهم ضعف قدراتهم.

القطاع الخاص لا يوظف أحداً بالنخوة، بل بكل بساطة يحسبها بمعادلة كم من المال يدخله الموظف إلى المنشأة، الموظف هنا مجرد رقم إنتاج، وتحليل هذا "الرقم" بشكل متجرد بعيدا عن العوامل أو على الأقل مع تأجيل العوامل الإنسانية والوطنية وحب الخير وخدمة المجتمع، هو ما ينبغي أن نبدأ به مشروع دفع نصف مليون سعودي إلى تجارة التجزئة والخدمات والذي طرحته في مقالي السابق كحل سريع لبطالة نصف مليون مواطن مسجلين لدى وزارة العمل كعاطلين.

بمعنى أنه من الضروري تأسيس معادلة رياضية اقتصادية خلف هذا المشروع قبل أن نقدم المبررات الإنشائية والحتميات الوطنية.

فالأرقام المحيطة بالعامل الأجنبي المستقدم للعمل كبائع تجزئة تجعله الاختيار الأفضل في معادلة صاحب المال، فهو يحصل على راتب متواضع، ويعمل ساعات طويلة، يسمع ويطيع، لا يستطيع الاستقالة والانتقال إلى متجر آخر، أو أن يستقل بمتجره الخاص، ولا مجال هنا مرة أخرى للحديث عن الوطنية، فلم يكن صاحبنا هو الوطني الوحيد في سوق اعتاد كله ألا يوظف غير أجانب.

وضع مقلوب لا يمكن إصلاحه إلا بعملية تدخل من الدولة، ولكن قبل ذلك ما رأي المواطن السعودي الراغب في أن "يشفّر" مكان الأجنبي؟

نظرت في تعليقات القراء على مقالي الأخير فجمعت منها المقترحات التالية:

• تحديد ساعات العمل، فالسعودي لديه أسرة ولا يستطيع أن يعمل ساعات غير نهائية.

• حد أدنى للأجور، فالسعودي أيضا غير مستعد بالقبول براتب متواضع مقابل 8 ساعات عمل، وليس ذلك تأففا وإنما استجابة لتطلعه إلى حياة كريمة. وحتى تصبح كلفة الأجنبي مقاربة لكلفة السعودي.

• القضاء على التستر وجباية صارمة للزكاة ومراقبة الدفاتر المحاسبية.

• الحد من انتشار المتاجر داخل الأحياء، وتحديد مواقع تجارية في المدن.

• تطبيق معايير عالية للجودة على السلع كي تطرد البضاعة الرخيصة التي تجلب عمالة رخيصة وتضعف قدرة السعودي على المنافسة.

• فرض ضريبة على راتب الأجنبي أو مشغله.

بالتأكيد أن كثيرا من الأفكار السابقة على طاولة وزير العمل، ولن يخرج أي حل عن بعضها، ولكن حتى الآن لا نجد "حملة" حقيقية لتحقيق هدف سعودة أي قطاع، لقد فشلنا فيما هو دون ذلك مثل سعودة سائقي الليموزين، فكيف بهدف أكبر مثل سعودة قطاع التجزئة الذي يوظف ملايين الأجانب بدون وجود حملة وطنية تشترك فيها مختلف قطاعات الدولة.

لنأخذ موضوع التستر، هناك نظام صارم صدر عن وزارة الداخلية منذ عقود، لمكافحة التستر، كان مصطلح التستر وقتها يرقى إلى "الجريمة" مثل التهريب، فضرره الهائل على الاقتصاد الوطني يجعله أمرا معيبا لا أخلاقيا، وليس مجرد مخالفة نظامية، إنه مثل "القوادة" فهو خيانة وغش واقتصاد طفيلي، المتسترون ليسوا شركاء، لا يعرفون ولا يهتمون بمعرفة فيما يتاجر الذين يتسترون عليهم، لا يعرفون غير أن "غلام خان" يشغل محل أدوات كهربائية، أعلاه لافتة تحمل اسم المحل واسم المتستر، لا يهمه فيما إذا كان "غلام خان" مجرد واجهة لتجارة مخدرات، أو غسل أموال أو حتى خمور ودعارة، المهم أن يقبض الخمسة آلاف ريال في الشهر، غلام خان أتى بأخيه، ثم بضعة آخرين من جماعته، النتيجة عشرة محلات للأدوات الكهربائية وأخرى لأدوات السباكة، ارتفع دخل المتستر إلى أكثر من 50 ألف ريال في الشهر، هذا غير الرسوم المتقاضاة على التأشيرات، اللطيف أن غلام خان أصبح كريما، ويسهر مع المتستر ولا ينساه بهدايا لطيفة بين آونة وأخرى.

هل يمكن لمكتب العمل المحلي أن يفرض على غلام خان والمواطن السعودي المتستر عليه توظيف عاطل سعودي في أحد محلاتهم؟ بالطبع لا، فالتركيبة كلها لا تسمح للعاطل السعودي أن يعمل هناك، لن يرحب به أصلا، لا مواعيد العمل تناسبه، ولا الراتب، بل إن مالك العمل الرسمي لا يعرف شيئا عن محلاته، لا يعرف مداخيلها الحقيقية وممن يشتري غلام خان بضاعته، وكم يدفع رواتب لعشرات العمالة الهاربة من كفلائها والمتخلفة عن حج أو عمرة، فهل يتفاوض مكتب العمل مع غلام خان؟

لو فعلنا نظام مكافحة التستر فسوف نحتاج إلى جيش هائل من رجال المباحث الإدارية والأمن والشرطة ومكاتب العمل لفك اشتباكات أمنية ونظامية ومالية، ثم نرسم بعدها خطة طريق مفصلة لإعادة السوق السعودي إلى وضعه الطبيعي، المهمة لن تنتهي لحظة إعلان القضاء على آخر متستر سعودي.