ليس المدح نفاقا في الحالات كلها، وليس الذم تجاوزا في الحالات كلها، ورغم ذلك، فإن المادحين والقادحين يُوضعون في سلة واحدة عند النسبة الكبرى من أدعياء الحياد، أو من المحايدين الحقيقيين؛ فالمادحون كلهم -عند هؤلاء- يتزلفون بتزييف الواقع، والتزيّد في الصفات، وتضخيم الأفعال والأشخاص، وإسباغ الألقاب التعظيمية المجانية على أفراد لا يستحقونها.

وفي المقابل، فإن القادحين أيضا متزلفون بطريقة مضادة، قوامها ذم أعداء ممدوحيهم بالحق والباطل، لنيل الرضا والعطاء.

أزعم أن الحكم على المادحين كلهم بأنهم منافقون، وعلى القادحين كلهم بأنهم متجاوزون يريدون مكاسب معينة، حكم ظالم؛ لأنه يساوي بين فريقي: المادحين الصادرين عن إيمانهم بأفعال ممدوحيهم، والمادحين المنافقين، كما أنه يساوي بين فريقي: القادحين انطلاقا مما يؤمنون به من القيم والمثل والمبادئ، والقادحين بحثا عن مال أو مكانة أو تحقيقا لاستعداء أو تشويه.

هذا الحكم الذي يساوي في الظلم، يحتم التأمل في الفروق الجوهرية بين: مادح كاذب متزلف منافق متكسب، ومادح هدفه الإشادة بمنجز، أو بفعل من خلال فاعله، وبين: قادح متجاوز يسيء ليحصل على امتيازات ومكاسب، وقادح هدفه الحط من ذي فعل قبيح، وهو ما أسعى إلى مقاربته في هذا المقال، وفي المقال القادم بإذن الله.

عند البحث عن آراء تتعلق بأخلاقيات المدح والذم في تراثنا العربي، وجدت أقوالا متناثرة، لا تعتمد على مصطلحات قارة، ولا تقوم على مفاهيم واضحة للألفاظ، إلا أنها تهب قارئها فكرة عامة عن وجود أشكال من الاستهجان والاستياء من سلوكيات المادحين الكاذبين، ومن سلوكيات القادحين المتجاوزين.

ولتتضح الفكرة، أعرض بعض أقوال القدماء حول مسألة التكسب بالشعر بوصفها أنموذجا للمدح النفاقي التزلفي، إذ تؤكد بعض أقوال القدماء أن قصيدة المدح العربية في الحالات كلها، وعلى اختلاف الممدوحين، تهدف إلى الكسب المادي في المقام الأول؛ ولذا طغى المديح على الشعر العربي عبر عصوره، وتحول الشعر إلى حرفة قولية ينال بها صاحبها مراده المادي، وهي حقيقة أظهرها بروز المدح بوصفه غرضا مقدما يهدف الشعراء منه إلى نيل العطاء، حتى صارت القصيدة المدحية العربية مقدمة عند النقاد الذين يرون فيها الصورة الأنموذجية الكاملة للنص الشعري.

وبالتأمل في هذه الأقوال، ظهر لي أن علاقة الشعر بالمال -من حيث تحوله إلى حرفة كسبية- علاقة طارئة لم تكن في الأصل، وأن التكسب بالمدح أخذ في الازدياد مع استقرار الدولة الإسلامية، وذلك حين صار الخلفاء يحرصون على تخليد مآثرهم وصفاتهم الشخصية بما يقال فيهم من شعر يقبض الشعراء ثمنه، وازدادت هذه العلاقة تعقيدا حين بات أخْذ المكافآت مرتبطا ببعض المبادئ التي ابتدعها المادحون، أو كرّستْها السياسة، وتنافس الأحزاب، وصراح المذاهب والطوائف.

ومما يدعو إلى العجب أن الشعراء صاروا يفخرون بما يأخذونه من ممدوحيهم مقابل مدحهم إياهم، ومن ذلك -وهو متواتر- أن الأحوص الأنصاري، كان يفخر بأن ماله لم يكن من ميراث أو تجارة، وإنما هو عطاء من كريم .

وأمام مثل هذا الانحراف المبدئي، وهذا الخطل القيمي، أصبح الإصرار على النفاق مزية، وأمسى الإلحاح في الطلب والتسول بالفعل أو بالقول، يؤدي إلى النجاح في الوصول إلى البغية، يقول ابن عبد ربه: «وقالت الحكماء: لا يواظب أحد على الأبواب فيلقي عن نفسه الأنفة، ويحتمل الأذى، ويكظم الغيظ، إلا وصل إلى حاجته... وقالوا: «من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له»، وهذا يفسر التنازل عن الكرامة المتمثل في قبول الرفض والإهانة -أحيانا- في سبيل المال أو المنصب، وهو سلوك مناف للأنَفة، إلا أنه معروف عند بعض المادحين من الخطباء والشعراء .

وحين صار الشعر والنثر إلى هذه الصفة، باتا وسيلتين دعائيتين ، ولم يعودا فنين رفيعين للمتعة، أو للتهذيب، أو للتعبير عن التجربة، وهي صيرورة انحرافية عن الأصل النقي للفنون القولية.

يقول ابن رشيق: «وكانت العرب لا تتكسب بالشعر، وإنما يصنع أحدهم ما يصنعه فكاهة أو مكافأة عن يد لا يستطيع أداء حقها إلا بالشكر إعظاما لها»، وكلامه دال على وجود تحول عززه السلوك ، والحاجات .

تذكر المصادر أن التحول الكسبي الذي طرأ على الشعر العربي مثلا، واستمر مع تعاقب العصور، قد بدأ بالنابغة الذبياني الذي وصف ابن رشيق سلوكه بالقول: «المدح ، وقبل الصلة على الشعر، وخضع للنعمان ابن المنذر»، ثم جاء الأعشى الذي يصفه بقوله: «جعل الشعر متجرا يتجر به نحو البلدان، وقصد حتى العجم، فأثابوه وأجزلوا عطيته علما بقدر ما يقول عند العرب واقتداء بهم فيه».

ويتضح من كلام ابن رشيق، أنه لم يكن يرى التكسب بالمدح عملا شريفا، إذ يقول عن النابغة حين خضع للنعمان: «وكان قادرا على الامتناع بمن حوله من عشيرته، أو من سار إليه ، فسقطت منزلته، وتكسب مالا جسيما حتى كان مايملكه من العطايا»، وعلى الرغم من هذا القول، إلا أن ابن رشيق يخضع الشعر في مقاييسه النقدية، لنظرية الكسب والتجارة التي تلغي «ذاتية» الشاعر، وتجعله وسيلة دعائية للمانحين، وتعزز الانحراف الأخلاقي نحو النفاق والخضوع والتذلل.

ولعل هذا الواقع هو ما جعل بعض المستشرقين يفسرون الشعر العربي تفسيرا اقتصاديا، ومن أولئك «لاندبرج» الذي يقول: إن لفظة «قصيدة» تعني «شعر الغرض والقصد»، وربما قصد بذلك المكاسب المادية، وهذا التفسير لم يقبلـه «بروكلمان»؛ ويعلل ذلك بقوله: «الغرض والقصد لم يكن في الزمن القديم أصلا، ولم يكن في الزمن المتأخر دائما، هو كسب الجزاء المادي»، كما لم يقبل «بروكلمان» تفسير «جورج ياكوب» الذي جعل دلالة لفظة «قصيدة»، تتجه نحو معنى «شعر التسول»!

ومهما يكن حجم الخطل في تفسيرات هؤلاء المستشرقين، الذين نظروا إلى الشعر العربي «نظرة مادية مصلحية أخرجته عن جوهره»، فإن وجود مثل هذه الآراء يدل على صلة وثيقة -في أذهان العرب والأعراب- بين: المدح من جهة، والمادة والطموحات الدنيوية من جهة أخرى.

تتبقى حول الموضوع أسئلة كثيرة أحاول القبض على إجاباتها في المقال القادم، وهي متعلقة بالراهن السعودي، والراهن العربي، والراهن الاجتماعي: من ناحية: امتزاج المدح والقدح بالحس الوطني، وبالحب النابع من الوجدان، ومن حيث: ارتباط القدح -أحيانا- بغضب حقيقي، والغضب عاطفة إنسانية -كأي عاطفة- يصعب أن يتسم الإنسان -حالها- بالحلم والترفع والأناقة اللفظية.