فور إنهائي للمرحلة الابتدائية عام 1987 تقريباً، تم تغيير مسمى مدرستي تلك من (ابن سينا) إلى (ابن سيرين)، وقبيل نهاية العام الدراسي آنذاك، أتذكر أني وزملائي الطلاب دخلنا على معلم التربية الفنية وهو يقوم بالتهيؤ لتغيير المسمى من خلال طمس (النون والألف) واستبدالهما بـ(الراء والياء والنون) في اللوحة الخارجية للمدرسة! ولكن من حسن الحظ أنني احتفظت بالشهادة الابتدائية في المسمى القديم، بعد أن ارتبطتُ أنا وزملائي آنذاك بتلك المدرسة وجدانياً وثمة شعور كان يخالجنا بالانتماء إليها، حيث كنا نمثلها في المحافل الرياضية والعروض المسرحية، لكنني في تلك المرحلة كنتُ مندهشاً وحزيناً حيال هذا التغيير الذي لم أجد له أي تفسير، فأنا كنت أعرف ابن سينا العالم والفيلسوف المسلم، الذي ارتبطت صورته منذ الطفولة بالممثل اللبناني الكبير المرحوم رشيد علامة الذي جسد هذا الدور، وفي المقابل لم أكن أعرف ابن سيرين هذا، وحينما سألت قيل لي إنه عالم مسلم.

صحيح أننا خضعنا للمد الصحوي طوال الثلاثين عاماً، ولكن يبدو أننا لم نفتك منه حتى الآن، فهذا المد المجتمعي جنى على طبيعة الحياة وانسيابيتها في المجتمع السعودي، حتى تحولت الحياة إلى لا شيء!

التاريخ أيضاً يمكن اعتباره أحد ضحايا هذا المد الأيديولوجي المسمى بـ"الصحوة"، فقبل عدة سنوات قمت بزيارة مع بعض الأصدقاء للمنطقة الأثرية في مدينة جبة بمنطقة حائل، اطلعنا على حالات طمس مادية لبعض الرسومات الأثرية على جبل أم سنمان، وقال لنا أحد المشرفين على المنطقة إن من قام بذلك هم محتسبون من الهيئة، وبصرف النظر عمن قام بهذا الفعل، فإنّ الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها، هي أن هناك من لا يقيم وزناً وقيمة لآثار عمرها يفوق ثلاثة آلاف عام، ولا مانع لديه من تحطيمها بدافع الدين!

على الرغم من أن القضية ليس فيها علاقة بالدين بقدر ما لها علاقة بالتشدد الديني، إلا أننا نرى بين فينة وأخرى أن هناك من يعيد إنتاج مثل هذه الأمور بشكل يشبه المهزلة، ويجعلنا بصورة بشعة أمام العالم، في وقت نهتم فيه بتوضيح اهتمامنا بالتراث والثقافة الإنسانية، ونسعى لجلب السائحين ليطلعوا على آثارنا وتاريخنا وحضارتنا العربية الممتدة في بعض مناطقنا إلى أزمنة سحيقة.

قبل عدة أيام، في حائل أيضاً، عاد المسلسل ذاته بصورة أثر كاريكاتوريةً من خلال تصريحات مدير التربية والتعليم على خبر تغيير اسم مسمى مدرسة حاتم الطائي، وكأنه يمثل عبئاً وعيباً على كاهل المجتمع والمؤسسات الرسمية إذا ما تسمت باسمه، وفي مقدمتها المؤسسة التربوية! لم تقنعني تلك التصريحات: فأي حاتمٍ تقصده تلك المدرسة حين رضيت تنكير الاسم: حاتم الطائي، حاتم العراقي، حاتم ذو الفقار، حاتم... من؟!

لا أعتقد أن مسمى مدرسة ابتدائية سوف يؤثر بطمس تاريخ هذا الرجل وإن اعتُبر إنساناً (كافراً)، غير أن المشكلة-بل المعضلة- تتمحور حول أزمتنا في علاقتنا مع ذاتنا، تاريخنا وثقافتنا، قبل أزمة العلاقة مع الآخر!

وأتساءل هنا: كيف يكون لنا القدرة على التواصل مع العالم الآخر إذا ما كنا غير قادرين على التواصل مع تراثنا؟! إذ يفترض أن ينظر كثيرون في هذا العالم إلى ماضينا بأنه ماضٍ مشرق يستحق الاحترام، ولا سيما إسهامات العلماء المسلمين في تقدم الحضارة البشرية، في وقت نطمح فيه إلى تعزيز قيم الشراكة الثقافية لتمد جسور التواصل الحضاري بيننا وبين شعوب العالم.

إن تاريخنا الاجتماعي والثقافي والديني سيمثّل أزمة حقيقية بالنسبة لنا، إذا ما قرأناه بطريقة أيديولوجية متشددة تجعلنا نعتقد أننا نحافظ على معتقداتنا وتراثنا، بينما نحن ننغلق على أنفسنا ونضع واقعنا في زاوية ضيقة لا نافذة ولا باب أمامها ولا خلفها، فليست المسألة مسألة طمس اسم علم أو رسم أثري، فالمسألة ثقافية بالدرجة الأولى، نحن-حتى الآن- لم نتصالح مع واقعنا ولا زماننا، وما زلنا نعتقد أن أحادية الرأي سوف تحمينا أو تعيد لنا مجداً فقدناه؛ ولذلك لا نؤمن بأنه يحق أن يكون للآخرين مكان مهما علا شأنهم، وهنا أستطيع القول إنه لكي نتصالح مع أنفسنا والعالم من حولنا يفترض أن نفكر بعزلتنا الإنسانية والثقافية.. لذلك من المهم أن يفكر كل منا بحجم الصحراء التي في داخله كما يقول عبدالرحمن منيف!