يقول المفسرون: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها، ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها، ومن الطبيعي بل من الفطنة أن تكون متابعتنا واطلاعنا لما يجري حولنا من أحداث وتجارب مختلفة في أرجاء العالم أو في محيطنا الإقليمي، فيها تأمل وملاحظة ومتابعة واعية لما يحيط بتلك الأحداث والتجارب من ملابسات وحيثيات، لنستفيد منها في تفسير العديد من الأمور المبهمة التي تجري حولنا، ولا نجد لها مبررا مقنعا أو إجابة شفافة تترجم لنا طبيعة النتائج التي نحصدها لمنجزات في قطاعاتنا المختلفة، أو لمستوى النجاحات التي نأملها ولا نجدها.

تداولت وسائل الإعلام منذ أيام معدودة خبرا عالميا ذا مغزى مهم يستحق الوقوف عنده للعبرة والفائدة، وذلك يتصل بإجراءات اتخذتها شركات عالمية لها وزنها المعروف، بإقالة رئيس مجلس إدارة شركتين كبيرتين من شركات السيارات المعروفة (نيسان، رينو)، وكان سبب الإقالة اتهامات بتلاعب المسؤول الذي يمثل أعلى سلطة فيها، بحجم المداخيل المالية لتلك الشركتين الكبرى والاستفادة منها لحسابه الشخصي، وذلك بعد سنوات من العمل لتنمية أرباح تلك الشركتين وتطوير نشاطها السوقي على مستوى العالم، والذي يهمنا من مجمل الحادثة، ما صدر عن لجنة التحقيق حول السبب الذي أسهم في تيسير عملية التحايل والتمكين من التلاعب في شفافية المداخيل المالية لتلك الشركتين لذلك المسؤول، وهو: السلطات الإدارية والتنفيذية الواسعة التي مُنحت له، والتي جعلته يتحكم في إدارة كثير من الكيانات الإدارية بما يتيح له السيطرة على معلوماتها وبياناتها وقراراتها، وبالتالي تسخيرها لما يخدم مصالحه الخاصة على حساب مصالح الشركتين الأساسية، التي مكنته من هذا المنصب وأعطته الثقة لإدارة مجلس إدارتهما بقطاعاتهما المختلفة، ولأن النفس أمارة بالسوء، فقد استحل المسؤول الاستحواذ على جزء من أرباح الشركتين لحسابه الخاص، مستغلا بذلك منصبه وصلاحياته الواسعة التي احتوت مقدرات الشركتين العملاقتين.

وفي ذلك الإطار يمكننا مراجعة الآلية التي يدار بها كثير من قطاعاتنا الوطنية من العام والخاص، والوقوف على الأسلوب المطبق في تسييرها ومدى قربها أو بعدها من النموذج أعلاه للموازنة والمقاربة بين تلك الأحداث وما انتهت إليه من نتائج، بهدف الاستفادة من تجارب دولية ملهمة، وممارسات إدارية تستحق الوقوف عندها، والاعتبار بنتائج حقيقية تم إعلانها بشفافية.

لا نستطيع أن ننكر أننا بفضل من الله ثم بجهود قيادة حكيمة، سجلنا تقدما كبيرا في منجزاتنا الوطنية في مختلف القطاعات، سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى الدولي، ولكن التساؤل المطروح، هل كان الإنجاز التنموي بحجم الإنفاق المادي؟! وهل كان المنتج التنموي الملموس بحجم الجهود المبذولة لنحو خمسة عقود زمنية؟! وهل كان النمو الاقتصادي والاجتماعي بحجم محتوى الخطط الخمسية التنموية التي بدأت منذ سبعينات القرن المنصرم؟!

ومما يجب التنويه إليه، أن انطلاق رؤية 2030 الإستراتيجية يعتبر انتقالا حقيقيا ونوعيا في مسارنا التنموي بتطلعاته الوطنية، وبما انتهجته من سياسات وإجراءات مفصلة، وبما احتوته من برامج ومبادرات تشمل كافة قطاعاتنا التنموية المستهدفة، وبما استندت إليه من مرتكزات إستراتيجية تسعى نحو تحقيق الشفافية في الأداء والتمكن من الحوكمة والمساءلة لمسؤولي القطاعات، لتعمل جميع القطاعات والجهود كمنظومة متكاملة، تخدم تحقيق أهداف الرؤية في صناعة السعودية الجديدة في نموذجها الطموح الذي يستحقها كدولة رائدة.

ولعله من حسن حظنا كدول نامية وآخذة نحو التقدم، أن نجد نماذج تنموية رائدة سبقتنا، ونتابع تجارب ناجحة لدول متقدمة تستحق أن يحتذي بها، للاستفادة من إيجابياتها وحصادها النافع بسياسات مماثلة، وتجنب سلبياتها وعثراتها بسياسات مضادة، وبذلك يمكننا توفير كثير من الجهود المبذولة وترشيد الأموال المهدرة في استشارات وخطط تنموية مختلفة، لابتكارات مستحدثة وأفكار جديدة قد لا تنجح عند تطبيقها، أو لا تناسب الواقع التنموي الذي نعيشه، أو لا تحقق الطموح الذي نريده.

صحيح أن التجارب التنموية لا تتكرر بحذافيرها بين دولة وأخرى، لاختلاف الظروف والإمكانات والموارد بين الدول، ولكن ذلك لا يمنع من الاسترشاد بتجارب تنموية ناجحة سبقتنا، وتمكنت من تحقيق نجاحات ملموسة في كيانها الوطني وعلى المستوى الدولي، فليس عيبا أن نستفيد من تجارب الغير، أو أن نحاكي سياسات وإجراءات إدارية وهيكلية ومؤسسية انتهجتها دول أثبتت نجاحها الفعلي، وإنما العيب والخلل أن نكرر أخطاء وسياسات وإجراءات وقع فيها الغير، ولم نعتبر أو نتعظ منها، كما لم نستفد من تجاربها الأولية في مسيرتها التنموية، فلنبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولنبنِ واقعا محفزا نعيشه، وننشد مستقبلا مشرقا نأمله.