مع تطور وسائل التواصل وتقنية المعلومات، تمسك التلفاز بمكانته المعهودة ولم تتأثر نسبة مشاهدته، فما زالت متابعة التلفاز من الطقوس اليومية المنتظمة عند المشاهد العربي، مما يجعلنا نطرح نظرية الغرس الثقافي (cultivation theory) على حالة المشاهد العربي وما يتعرض له من تأثير مباشر وضخ يومي مكثف من ناحية الدراما التركية والمسلسلات التركية التي تحمل بين طياتها الكثير من الرسائل التأثيرية ذات الأبعاد السياسية الموجهة لغرض التأثير النفسي والثقافي على المشاهد العربي.

إن مصطلح الغرس الثقافي ظهر لدراسة تأثير التلفاز التراكمي، والغرس الثقافي يستعمل كأسلوب في صناعة انطباعات معينة ومحددة غير موجودة مسبقا عند الجهة المستهدفة، ووسائل الإعلام كما يقول ستيوارت هال: «تعد أفضل سوق أو منتدى جماهيري يتم فيه الصراع لتشكيل الأفكار الثقافية حول الحقائق ورسم حدودها». وإذا ركزنا على التلفاز وجدنا أن برامجه التي يقدمها تحفل بشكل دائم بموضوعات الأزياء والطعام والعادات والتقاليد وشتى موضوعات الحياة الاجتماعية، ووسائل الإعلام، التي يعتبر التلفاز أهمها، تعتبر أداة فعالة لتسويق أي منتج ثقافي، وهذا يؤكد أهمية الأثر البالغ لهذه الوسيلة وقدرتها التأثيرية على قيم واتجاهات الأفراد من خلال أسلوب حياتهم اليومي.

ولا ننكر أن المسلسلات التركية حظيت بشعبية كبيرة في الوطن العربي، وقد تعرض لها جمهور عريض ومتنوع، ولا شك أن شريحة كبيرة من الشباب والفتيات قد تأثروا بمضمون ومحتوى هذه الدراما، فقد اعتمدت في أسلوب تقديمها على نواحٍ عديدة مثل الجذب والتشويق وإثارة العواطف، إضافة على دقة اختيار أبطال العمل الدرامي وملابسهم بمواصفات الوسامة والأناقة والجمال والرومانسية، وهذا الاختيار الدقيق للأبطال يقترن دائما باختيار الأماكن الجميلة والفاخرة لتصوير الأحداث الدرامية.

وقد تنافست القنوات العربية على تقديم الدراما التركية لما لمسته هذه القنوات من متابعة لهذه الدراما من جانب الجمهور العربي الذي استهوته هذه الدراما بشكل واضح، ويجب أن نعترف بأن الدراما التركية قد أحدثت عملية تأثير ثقافي واسع النطاق على المجتمع العربي بما تحمله من قيم موجهة، جعلت المواطن العربي يوجه الأنظار نحو تركيا لمعرفة واقع الحياة الاجتماعية والثقافية والتاريخية هناك، وهذا انعكس على الكم الكبير من السياح العرب الذين شدوا الرحال للأراضي التركية، حيث يعتقدون أن ما شاهدوه من خلال المسلسلات التركية من أماكن وأحداث وشخصيات تكون مطابقة لما يحدث في الحقيقة والحياة.

هذا فيما يتعلق بالدراما التركية الاجتماعية، ولكن التوجيه السياسي والأيديولوجي في الدراما التاريخية كان أكثر تركيزا وأكثر خطورة، فالأثر السياسي كان حاضرا في أحداث المسلسلات التاريخية عن طريق استرجاع الرموز الدينية والأحداث المصيرية في تاريخ الدولة العثمانية في سبيل التأثير على وجدان الشعوب المستهدفة واستثارة عواطفهم الدينية، فقد شاهدنا على الأحداث وكيف صورت البطل التركي وهو يخدم الأمة الإسلامية، من خلال سعيه إلى إنقاذ العالم الإسلامي من المؤامرات الصليبية، وكأن العالم الإسلامي ومستقبله صار في حالة انتظار لهذا المخلص التركي لينتشله من الضعف والهوان وتكالب الأعداء عليه.

إن هذه المسلسلات التاريخية لاقت دعما من الحكومة التركية وإشرافا مباشرا من الرئيس التركي نفسه، ولا يوجد لدينا ذرة شك بأن هذه المسلسلات متورطة في الشأن السياسي، وهذا يحتم علينا تحليلها واستخراج الاتجاهات والمضامين ونظريات التأثير فيها، مع السعي نحو فرض وقاية فكرية ثقافية تجاه هذه الأعمال، والتأسيس لإستراتيجيات تحفظ لنا أمننا الثقافي، فالأمن الثقافي لا يقل أهمية عن الأمن الاقتصادي والأمن الغذائي، لأن فقدن الأمن الثقافي سيؤدي إلى التبعية، والتبعية لا تعني الانفتاح على الآخر بقدر ما تعني الارتهان للآخر والعيش على منتوجه.