(1)

من الشواهد المؤلمة في حياتنا أن إنسانا كنت قد عرفته في زمن مضى، ثم صادفته بعد عشرين عاما مثلا، فتجده كما تركته (أقصد وعيه وإدراكه الذهني بالأشياء والموجودات)..هو ذاته منذ عشرين خلت بأحاديثه ومعارفه وخبراته ومهاراته ذاتها، كأنه نسي أن يكبر أو أن زمنه قد توقف عند لحظة فاصلة. مؤلم حقا هو السكون أو الدوران اللانهائي في حلقة مفرغة..أو لكأنه الدوران المرير الذي قصدته السيدة الفيروزية..سيدة الحركة والحياة وهي تنشج: «يا دارة دوري فينا..ظللي دوري فينا/تاينسوا أساميهن وننسى أسامينا/ وسألونا وين كنتوا/ وليش ماكبرتوا انتو/ بنقلن نسينا/ واللي نادى الناس/تايكبروا الناس/ راح ونسي ينادينا»، أو-من الآخر..لكن بعد إيه؟-عندما تدفع (شقاء) عمرك، وكل ما تملك وما لا تملك لتشتري

أرضا تؤويك أنت وأبناءك من عاديات الزمان، ثم تدفع شقاء عمرك (الثاني) وكل ما تملك ولا تملك (مرة ثانية) لبناء هذه الأرض، وحين يعلو البنيان مقاربا سقف أحلامك البسيطة تنتظر أن تجد حولك ماء أو ضياء أو دروبا تنتقل عبرها لممارسة حياتك الجديدة فلا تجد، وتظل تنتظر بسنوات عمر ابنك العشريني فلا تجد! ليصبح الوجود أمامك قطعة من ليل بهيم،

ومفازة بعيدة مجدبة.

 (2)

 طبعا.. يحدث هذا في مخططات سكنية مؤكدة الوجود والشرعية في وثائق أمانات وبلديات المدن، والتي باع الناس بموجبها واشتروا، وهم على يقين أن هذه المخططات العمرانية ستتوافر على أهم وأبسط مقومات العمران التي عرفها البشر، ولكنهم مع مرور السنوات (بالعشرات وليست بالأعداد المفردة) يصطدمون بالوعود والتجاهل والتغافل بعد (مشاوير) طويلة زاخرة بالخطابات والطلبات والمراسلات والأحلام البائدة!! وكأني أجد أن لسان حال هؤلاء المغلوبين  على أمر أحيائهم يفصح عن السؤال (الكبير) خلال كل تلك السنوات المريرة: «ما الفرق إذاً بين المساكن في البيئات العشوائية والمساكن في المخططات العمرانية السكنية المعتمدة ارتباطاتها بالمؤسسات الحكومية ذات الصلة؟!»

 (3)

 حي الحمدانية في الشمال الغربي لمدينة جدة يحكي ذلك الواقع السكني المرير، وهو الذي يتكون في الحقيقة من 18 حيا، موزعة على مساحة هائلة

وعدد سكان يتنامى بكثافة كبيرة، بسبب الموقع الحيوي الإستراتيجي الذي تحتله تلك الأحياء بعيدا عن صخب المدينة واختناقاتها الخانقة، وقريبا من فروع لجامعات حكومية وجامعات أهلية، ومن مراكز ترفيهية مستحدثة في الجهة الغربية المقابلة، ومن معالم آنية (شهيرة): (مدينة الملك عبدالله الرياضية) ومسار (قطار الحرمين)، لدرجة أن الجميع أصبح يطلق على تلك الأرجاء (جدة الجديدة)، وهي بالفعل كذلك - متى توفرت لها الإمكانات الضرورية - أو أريد لها أن تكون كذلك من قبل أمانة المدينة العروس وكبار العقاريين والمستثمرين الاقتصاديين.

 ولكن واقع تلك الأحياء يقارب حال والدي الطفل الذي توقف نموه الذهني بعد أن بدأ يخطو للتو خطواته الأولى في دروب الحياة، أو حال ذلك المزارع العتيق الذي اصطدم بأرض موات لا تقبل صعود الأشجار ولا نمو النباتات ولا أي بوادر للخصب والحياة!

 فمنذ أن بدأ السكن في تلك الأحياء منذ أكثر من عقدين من الزمن وهي على(حطة يد) ساكنيها، تفتقر لكل (أساسيات) العيش والتوابع الحيوية المصيرية للعمران في كل بقاع العالم؟!

 فلا تزال تلك الأحياء رهينة للأرتال الحديدية البشعة من (وايتات) نقل الماء أو التصريف الصحي.

 لا أحد يعلم حقيقة إنشاء شبكة المياه الوطنية، ولا مصير إمدادات بعض أنابيب الصرف الصحي؟

كما أن جزءا كبيرا من تلك الأحياء يقبع في ظلام دامس، لعدم وجود إنارة، سواء في معظم الشوارع الكبرى أو في الشوارع الفرعية الملاصقة لمساكن الحي؟!..عشرون عاما أو يزيد والظلام ينتشر بهول في أنحاء مخطط سكني يمتلك كافة (الاعتمادات) الورقية في أروقة مكاتب المؤسسات الحكومية الخدمية المتعلقة بأمر ومصير تلك الأحياء؟!

 هذا الظلام في كافة تداعياته الدلالية المحرجة، لم يدع الفرصة للساكنين ليروا بأعينهم الذين عملوا تلك الطرق والشوارع حولهم ومن أمامهم وخلفهم، لتصبح مهترئة متهالكة (إلى هذا الحد!)، منذ البداية، وحتى بعد انقضاء أعمال الترميم والإصلاح، حتى بلغ حالها ما بلغه الآن من (حفر) ضخمة تارة، وجبال إسفلتية تارة أخرى، ومسالك ترابية محجرة بين الحين والآخر!! ولعل السبب الأهم في ذلك المشهد المتصلد هو الظلام (إياه) الذي يسود وحدة أية مساحة عمل، تزعم أن بداخلها الحلول الناجعة لمشكلات ارتفاع منسوب المياه الجوفية، والتي جعلت المشهد يزخر كذلك بمستنقعات

آسنة من الطفح المائي التحتي لأعلى نهارات تلك الأحياء الواقعة بين سندان الإهمال ومطرقة النسيان!

 هذه الشوارع المظلمة المتصدعة أصبحت صيدا مفزعا للعابرين مع مركباتهم صباح مساء، في تلك (التقاطعات) المرورية التي تنتظر من عشرين عاما إشارة ضوئية، وطيفا من رجال المرور، ينقذون معا، ما يمكن إنقاذه من أرواح الأبرياء، الذين إن سلموا من الوقوع في الحفر أو الاصطدام في الأرصفة المعتمة المهجورة فإن سلامتهم من تلك التقاطعات

النارية يظل في رحمة الرحمن!! وبالتأكيد (المؤكد) فإن وجود مراكز ترفيه أو حدائق عامة يعد ضربا من الترف لا يتسق مع (هول) ذلك المشهد المفعم بالفقد والغياب، حتى آخر (فراغ) في هذا الكون الرحيب.

 (4)

هل يعيش سكان هذه الأحياء ليسمعوا أحد أبنائهم أو أحفادهم يطلب عبر أحد الحسابات الإلكترونية الرقمية مكتبة لأهل الحي أو ناديا رياضيا أو مركزا اجتماعيا ترفيهيا أو صالة لعرض الفنون الجميلة؟! أم يتلاشى العمر كله في البحث عن ماء وكهرباء وصرف صحي وإشارة مرور!!

 (5)

كل مؤسسة حكومية تحاول تعليق الجرس في عنق المؤسسة الأخرى ليظل مصير مثل تلك الأحياء معلقا بين عدة مؤسسات في اللحظة ذاتها: أمانة المدينة ووزارة المواصلات وإدارات المرور وشركة المياه الوطنية..حتى يستحيل صوت (الجرس) المعلق إلى نشيج مؤرق، لا ينطلق من بوابات تلك المؤسسات الحكومية، وإنما يصدر من الأعماق الحزينة للذات القابعة في حي سكني لا يعرف تراجيع النداء..

النداء الحالم بماء وطريق وقبس من ضياء..!!